أعادت الأزمة الراهنة طرح العديد من الأسئلة، سواء
في صفوف الاقتصاديين المتخصصين أو في صفوف عموم الناس.
فانهيار البورصة في نيويورك اولندن أو طوكيو، بدأ يتحول
إلى موضوع حديث قسم كبير من الناس البسطاء الدين لا معرفة لهم بالف باء الاقتصاد السياسي.
وهذه إحدى تجليات عولمة الرأسمالية. إن الناس يدركون بان ما تنقله شاشات التلفزيون من أخبار حول الانهيارات المالية في مناطق بعيدة من العالم ستمتد آثارها إلى المعمل الذي يشتغلون فيه والسوق التي يتزودون منها والمسكن الذي يؤدون ثمنه ...لكن الاهتمام المتزايد لدى عموم الناس لمعرفة ما يجري في العالم يقابله تعتيم وتضليل بالغ من قبل الحاكمين والمتحكمين في مصادر المعرفة ووسائل الإعلام الجماهيري واستفحال حالة الانفصام والعقم التي أصابت نخبة المثقفين بمختلف مستوياتهم ومجالات اشتغالهم. في ظل هذه الشروط يطرح على مناضلي الحركة الاجتماعية والنقابية وتيارات اليسار المناهض للرأسمالية بذل جهود مضنية لشرح وتفسير ما يجري من احداث كبرى في عالم اليوم. هذه المهمة هي في غاية الصعوبة والتعقيد عندما يتعلق الأمر بمسائل اقتصادية تتطلب معرفة أولية بالاقتصاد السياسي ومتابعة منتظمة بهذا القدراو ذاك لتطورات الاقتصاد الرأسمالي. وهي مهمة تستدعي قدرا كبيرا من الدقة والحذر لان الأمر ببساطة يتعلق بالجواب على أسئلة مرتبطة بالحياة اليومية وبالمصير المستقبلي للبشر في عالم يعيش فيه ولا يتملك أدوات معرفته.
وهذه إحدى تجليات عولمة الرأسمالية. إن الناس يدركون بان ما تنقله شاشات التلفزيون من أخبار حول الانهيارات المالية في مناطق بعيدة من العالم ستمتد آثارها إلى المعمل الذي يشتغلون فيه والسوق التي يتزودون منها والمسكن الذي يؤدون ثمنه ...لكن الاهتمام المتزايد لدى عموم الناس لمعرفة ما يجري في العالم يقابله تعتيم وتضليل بالغ من قبل الحاكمين والمتحكمين في مصادر المعرفة ووسائل الإعلام الجماهيري واستفحال حالة الانفصام والعقم التي أصابت نخبة المثقفين بمختلف مستوياتهم ومجالات اشتغالهم. في ظل هذه الشروط يطرح على مناضلي الحركة الاجتماعية والنقابية وتيارات اليسار المناهض للرأسمالية بذل جهود مضنية لشرح وتفسير ما يجري من احداث كبرى في عالم اليوم. هذه المهمة هي في غاية الصعوبة والتعقيد عندما يتعلق الأمر بمسائل اقتصادية تتطلب معرفة أولية بالاقتصاد السياسي ومتابعة منتظمة بهذا القدراو ذاك لتطورات الاقتصاد الرأسمالي. وهي مهمة تستدعي قدرا كبيرا من الدقة والحذر لان الأمر ببساطة يتعلق بالجواب على أسئلة مرتبطة بالحياة اليومية وبالمصير المستقبلي للبشر في عالم يعيش فيه ولا يتملك أدوات معرفته.
================
الأزمة المالية العالمية:مدرستان و أطروحتان
بعض الأسئلة
يلتقي جمهور الناس ونخبة المثقفين حول جملة من الأسئلة
بخصوص الأزمة التي هزت أركان بنوك وشركات مالية وعقارية قديمة قدم النشاط المالي والعقاري
نفسه. وبغض النظر عن شكل صياغة هذه الأسئلة، يمكن تصنيفها ضمن أربعة محاور:
1- أسباب الأزمة وطبيعتها: هل هي أزمة اقتصادية أم أزمة نظام مالي؟هل هي أزمة
عادية كالأزمات الدورية أم هي أزمة بنيوية؟
2- أبعاد الأزمة وامتداداتها: هل هي أزمة أمريكية ذات
امتدادات عالمية أم هي أزمة عالمية انفجرت أمريكيا؟
3- تداعيات الأزمة
وآثارها المحتملة: هل ستنعكس الأزمة المالية على الأنشطة الإنتاجية؟ هل سيترتب
عنها انكماش اقتصادي عام يشمل كل البلدان؟
4- إمكانيات الخروج من الأزمة: ما هي إمكانيات الخروج من الأزمة وبأية تكلفة؟ هل
يتوقف الخروج من الأزمة على تدابير حكومية أم يتوقف على تغيير العلاقات الاقتصادية
والاجتماعية المميزة للرأسمالية المعاصرة؟ من سيتحمل تكاليف الأزمة؟ ومن سيستفيد من
الخروج من الأزمة؟
تنقسم الأجوبة في صفوف الجمهور كما في صفوف نخبة المثقفين
إلى نوعين: أجوبة انطباعية وسطحية وأجوبة مرتبطة بمدارس وتيارات الاقتصاد السياسي المختلفة.
علينا
من البداية ونحن نتناول بالتحليل مختلف الأجوبة أن نستبعد ثنائية الصواب والخطأ، فالاقتصاد
السياسي يختلف عن باقي العلوم بعدم حياده مند البداية: اقتصاد سياسي برجوازي في خذمة
الرأسمالية واقتصاد سياسي اشتراكي مناهض للرأسمالية.
على
قاعدة هذا الانقسام تشكلت مدرستين متناقضتين: مدرسة الاقتصاد السياسي البرجوازي ومدرسة
الاقتصاد السياسي الاشتراكي. ومن داخل هاتين المدرستين تتفرع عدة تيارات اقتصادية.
طبيعة الأزمة وأسبابها: مدرستان وأطروحتان
المدرسة البرجوازية: تياران:
يمكن
اختزال هذه المدرسة في تيارين رئيسيين:
التيار
الليبرالي: وهو تيار معادي لتدخل الدولة في الاقتصاد سواء كمستثمر(القطاع العام) أو
كمنظم (القوانين العامة) وهو يعتبر التدخل العمومي إعاقة للدينامية الاقتصادية، ويدعو
إلى تحرير الأنشطة الاقتصادية والمالية من كل الضوابط وترك آليات وقوانين السوق كمنظم
وحيد للأنشطة الاقتصادية. فالسوق الحرة هي، من منظور هذا التيار، ضمانة في حد ذاتها
لتحقيق التوازنات الاقتصادية والاجتماعية.
التيار الكينزي:
على عكس التيار الليبرالي، يعتبر التيار الكينزي، أن دور الدولة ضروري لتحقيق
التوازنات وتصحيح الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية التي تترتب عن آليات السوق، وهو يدعو إلى تدخل الدولة
كمنظم وكفاعل اقتصادي، لتصحيح الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية الملازمة للسوق.
يلتقي هذان التياران، بشكل عام، حول نفس التحديد لطبيعة
الأزمة الراهنة. فهي من منظور التيار الليبرالي، أزمة مالية ناجمة عن سوء تسيير بعض البنوك والمؤسسات الاستثمارية
وانحراف مسييريها عن " أخلاقيات السوق" مما ترتب عنه تسمم السوق المالية
بسندات وأصول وهمية وقروض فاسدة.
وهي، من منظور التيار الكينزي، أزمة مالية، ناجمة بسبب انفصال الأنشطة المالية عن الاقتصاد
الفعلي وتحررها من الرقابة العمومية وانحرافها عن وظيفتها الأصلية المتمثلة في تمويل
الأنشطة الإنتاجية وتوفير الموارد المالية للمقاولات المنتجة.
يختلف هذا التياران حول إمكانيات وسبل الخروج من الأزمة.
فالتيار الليبرالي، رغم عدم ممانعته في تدخل
الدولة عبر ضخ موارد مالية من الميزانية العامة وتأميم "القروض الفاسدة"
لانقاد البنوك والشركات المالية الخاصة من الإفلاس، فانه يرفض أي مساس بقواعد واليات
السوق في تنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. وهو يعتبر تنسيق تدخل الحكومات كفيل
باحتواء الأزمة.
أما التيار الكينزي فيدعو إلى فرض ضوابط ورقابة على
الأنشطة المالية وإعادة الاعتبار لمكانة ودور الأنشطة الإنتاجية من اجل تفادي تطور
الأزمة نحو توقف مفاجئ للدورة الاقتصادية.
ويعود
جذر الخلاف بين هذين التيارين إلى الاختلاف حول مكانة ووظيفة الأنشطة المالية في الاقتصاد
الرأسمالي.
فالتيار
الليبرالي يعتبر النشاط المالي عاملا محركا للدينامكية الاقتصادية، لذا يجب، من منظوره،
تحرير القطاع المالي من كل القيود كي تتمكن الرساميل من التنقل بسرعة بين مختلف القطاعات
والمناطق الاقتصادية.
أما
التيار الكينزي فيعتبر النشاط المالي نشاطا طفيليا يتغذى على حساب مردودية النشاط الإنتاجي
ويتسبب في اختلال نظام اشتغال الاقتصاد الفعلي. أما الحل من منظور هذا التيار فيتمثل
في إعادة النظر في تحرير السوق المالية عبر فرض رزمة من الضوابط والقواعد على الأنشطة
المالية وإعادة الاعتبار لمكانة ودور الرأسمال المنتج في توجيه النشاط الاقتصادي برمته.
أي إعادة النظر بشكل كلي أو جزئي في الليبرالية
الجديدة لكن دون المساس بمرتكزات وأسس الاقتصاد الرأسمالي.
المدرسة الماركسية مقاربتان:
تخترق المدرسة الماركسية مقاربتان: مقاربة ماركسية
كلاسيكية ومقاربة ماركسية نقدية.......
1- المقاربة الكلاسيكية:
الأزمات، من منظور مقاربة ماركسية كلاسيكية،هي نتيجة
حتمية لتناقضات نظام الإنتاج الرأسمالي: الأزمات التي عرفتها الرأسمالية خلال القرنين
الماضيين تؤكد صحة ذلك، ادن فالأزمة المالية الحالية هي تعبير عن نفس التناقضات وتكرار
لنفس الأزمات.
لكن هده المقاربة لا تقدم تحليلا ملموسا للازمة وأبعادها،
ولا تسمح بتتبع المسار الذي تقطعه الأزمة كما لا تمكن من تحليل الإجراءات والتدابير
التي تقوم بها الدوائر الرأسمالية للتأثير في الأزمة. وبالتالي فهي لاتقدم حلولا ملموسة
تعطي للصراع الطبقي دورا في تحديد مسارات الأزمة ، مادام الحل الاخير هو تجاوز الرأسمالية...
2-المقاربة النقدية:
إن محدودية المقاربة الكلاسيكية تجعل من الضروري اعتماد
مقاربة ماركسية نقدية تدمج بين النظرية الاقتصادية الماركسية ونظرية الصراع الطبقي
. مقاربة تدمج بين التحليل الاقتصادي الصرف للازمة (نظرية الأزمات) وبين تحليل سياقها
التاريخي (تاريخ الأزمات) في ارتباط مع تحليل طبيعة الرأسمالية القائمة وحالة موازين
القوى العامة (الصراع الطبقي).
لان أسباب الأزمات وشكل تمظهراتها والحلول المقترحة
لتجاوزها غير منفصلة عن التناقضات الداخلية للاقتصاد الرأسمالي أو مستقلة عن الشكل
الذي تاخده البنية الاقتصادية أو خارج إطار العلاقات الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة.
3- التيار التجريبي
بين المدرسة الماركسية والمدرسة البرجوازية توجد عدة
تنويعات من القراءات والتحاليل الاقتصادية "الهجينة" التي تنهل من التحاليل
الماركسية والبرجوازية وخصوصا الكينزية. أهم هذه التنويعات تشكل ما يمكن أن نسميه بالتيار
التجريبي.
لا ينظر هذا التيار إلى الأزمة إلا من خلال مظاهرها
الاقتصادية والاجتماعية: فبدل الانطلاق من التناقضات الأساسية للاقتصاد الرأسمالي،
ينطلق هذا التيار من المظاهر الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عن هذه التناقضات: صعود
البطالة، انخفاض معدلات النمو، ارتفاع نسبة التضخم، اختلالات النظام المالي العالمي .....
خلاصة:
إن تركيز المقاربة التجريبية على تمظهرات الأزمة بذل
التناقضات المسببة لها، لا يسمح بفهم أسباب
الأزمة أو بتقدير سليم لعمقها ووثيرة تطورها،
كما لا يسمح بتحديد سبل الخروج من الأزمة أو على الأقل تقديم تقدير تقريبي لمدى نجاعة
أو عدم نجاعة الإجراءات والتدابير المتخذة ضد الأزمة.
تعريف عام للأزمات وأنواعها
الرأسمالية نظام أزمات
الرأسمالية نظام اقتصادي واجتماعي قائم على تناقضات بنيوية ودائمة. وبالتالي فالأزمات
الاقتصادية والاجتماعية هي ملازمة لهذا النظام. هذه الحقيقة لا تنكرها أي من مدارس
وتيارات الاقتصاد السياسي. لكن تحليل أسباب وشكل انفجار تناقضات نمط الإنتاج الرأسمالي
ووثيرة تطور أزماته وإمكانيات وسبل الخروج منها، يشكل موضوع خلاف بين مختلف هذه المدارس
والتيارات.
نظريا، يمكن تعريف الأزمة بكونها تعبير عن تناقضات
نمط الإنتاج الرأسمالي. يمكن أن تنفجر في دائرة الإنتاج كتعبير عن تناقضات مسلسل الإنتاج،
كما يمكن أن تنفجر في دائرة إعادة الإنتاج كتعبير عن تناقضات إعادة التوزيع أو التراكم.
كما يمكن أن تنفجر في الدائرة المالية والنقدية، كتعبير عن تناقضات النظام المالي والنقدي.
ويمكن أن تنفحر الأزمة في شكل أزمات اجتماعية مرافقة أو مستقلة عن الأزمات الاقتصادية،
كتعبير عن التناقض بين قوى الإنتاج والعلاقات
الاجتماعية. وهذا ما يفسر اختلاف أسباب الأزمات وتعدد أشكالها.
كما تتدخل عدة عوامل في تحديد شكل الأزمة ومداها وعمقها
ووثيرة تطورا وكذا حجم تأثيرها. وهي عوامل ذات طبيعة اقتصادية صرفة أو ذات طبيعة سياسية
وتاريخية.ويمكن تركيز هذه العوامل في التالي:
1- السياق التاريخي: ميزان القوى التاريخي على المستوى
السياسي والاجتماعي.
2- طبيعة المرحلة الاقتصادية: مرحلة ازدهار أم مرحلة انكماش.
3- طبيعة البنيات الاقتصادية وشكل اندماجها في السوق الرأسمالية:
طبيعة النموذج الرأسمالي.
التمييز بين نوعين من الأزمات:
من خلال رصد تاريخ أزمات الرأسمالية وتحليلها، يمكن
تصنيف هذه الأزمات إلى نوعين:
1- أزمات دورية:
هي
أزمات ملازمة للنظام الاقتصادي الرأسمالي، تنتج عن تناقضات مسلسل التراكم .عموما يمكن
احتواء هذا النوع من الأزمات بواسطة تدابير وإجراءات اقتصادية أو مالية صرفة. فالنظام
الرأسمالي يخلق من تلقاء ذاته ميكانيزمات لتصحيح الاختلالات الدورية الناتجة عن تناقضاته
الداخلية. ويمكن استعادة السير العادي للدورة الاقتصادية (الربح والتراكم) دون الحاجة
إلى إدخال تغييرات جوهرية على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية التي يرتكز عليها نظام
التراكم.
2- أزمات كبرى:
هي أزمات مرتبطة بأزمة نظام التراكم الرأسمالي ككل
وليس فقط باختلالاته الداخلية .وهي تعبير عن تناقضات لا يمكن احتواؤها من خلال عمليات
تصحيح داخلي. ولهذا يتطلب تجاوز هذا النوع من الأزمات تدخل عوامل "غير اقتصادية"
( سياسية في معظم الحالات) من اجل إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية لتوفيرشروط
اقتصادية واجتماعية ملائمة تسمح بدورة عادية لمسلسل التراكم الرأسمالي. الأمر يتعلق
بتغييرات كبيرة تمس نظام التراكم برمته: إعادة هيكلة العلاقة بين الرساميل، العلاقة بين الرأسمال والعمل،
التقسيم الدولي للعمل والعلاقة مع السوق الرأسمالية العالمية...
أي الانتقال من نظام للتراكم إلى نظام جديد.
ليس
هناك شكل واحد للخروج من الأزمات الكبرى. فالأزمة الكبرى التي عرفتها الرأسمالية في
القرن الماضي (أزمة 1929 ) عرفت طريقين للخروج من الأزمة: الفاشية بالنسبة لألمانيا
والنيوديل بالنسبة للولايات المتحدة . وما دامت عوامل الخروج من الازمات الكبرى هي
عوامل سياسية (وليست اقتصادية صرفة) فان طبيعة هذه العوامل أساسا بموازين القوى بين
الطبقات الرأسمالية والطبقات الشعبية ( الصراع الطبقي) وببنية وتركيبة الطبقات الرأسمالية
و إستراتيجية أقسامها المهيمنة وطبيعة علاقتها بالسوق الرأسمالية العالمية.
تمظهرات أزمات الرأسمالية
من خلال دراسة تاريخية لازمات النظام الرأسمالي، نستنتج
أن الأزمات (دورية أو بنيوية) يختلف مظهرها حسب طبيعة كل حقبة تاريخية.
أزمات
حقبة ما قبل الرأسمالية:
اتخذت
الأزمات شكل أزمات نقص الإنتاج(crises de sous-production)، كتعبير عن التناقض بين نمو
الحاجيات الاجتماعية وضعف وتاخرتطورقوى الإنتاج لتلبية هذه الحاجيات.
أزمات
الرأسمالية الصناعية:
اتخذت أزمات الرأسمالية خلال النصف الأول من القرن
19 (1800-1848) شكل أزمات فيض الإنتاج
((crises de surproduction كتعبير عن التناقض بين تطور قوى الإنتاج (التي تطورت إنتاجيتها)وتخلف العلاقات
الاجتماعية السائدة (البلترة الواسعة والاستغلال الكثيف لقوة العمل) التي لم تعد مواكبة
لتطور قوى الإنتاج.
وقد
انفجرت هذه الأزمات خلال النصف الأول من القرن 19 كتعبير عن التناقض المباشر بين الرأسمال
والعمل. فأزمة 1884 الكبرى تجد تفسيرها في التناقض المباشر بين الرأسمال والعمل حيث
لم تعد علاقات الإنتاج القائمة انذاك على الاستغلال الكثيف لقوة العمل والبلترة الواسعة
للسكان، تشكل الشروط الاجتماعية الملائمة لتحقيق التراكم الرأسمالي (توقف إمكانيات
خلق فائض القيمة بواسطة الاستغلال المطلق لليد العاملة المبلترة حسب تعبير ماركس).
لقد
تطلب الخروج من هذه الأزمة تغييرا جذريا في علاقات العمل (تحديد مدة العمل، الحد من
تشغيل النساء والأطفال، منع العمل القسري والعبودية والاستغلال المفرط والمطلق لقوة
العمل....الخ) من اجل تصحيح الاختلالات المترتبة عن التناقض بين ارتفاع كميات الإنتاج
(العرض) دون أن يقابله ارتفاع بنفس القدر لحجم الطلب الاجتماعي (الاستهلاك).
ومع نهاية القرن 19 سيتعمق التفاوت بين حجم العرض والطلب
ليأخذ شكل انفصال بنيوي بين "شروط الإنتاج" (ارتفاع الإنتاجية) و"شروط
التراكم" (ضعف السوق الاستهلاكية). هذا
الانفصال سينفجر في شكل أزمة كبرى بين 1873-1895 كتعبير عن تناقض بنيوي في نمط الإنتاج
الرأسمالي :ميل متوسط الربح إلى الانخفاض.
لقد كان الخروج من هذه الأزمة مشروطا بإعادة الارتباط من جديد بين "شروط الإنتاج" و"شروط
إعادة الإنتاج" عن طريق تصدير الرساميل بحثا عن مناطق جديدة تتوفر فيها شروط إنتاج
ملائمة لتراكم الراسمال (المستعمرات) ويد عاملة رخيصة (عمال المستعمرات) ومنافذ واسواق
جديدة لتصريف البضائع . أي الانتقال إلى نظام جديد لتراكم الرأسمال.
أزمات الرأسمالية الاحتكارية:
سيترتب عن فترة الحرب الامبريالية الأولى(14 -1918
) الانفصال من جديد بين علاقات وشروط الإنتاج (توسيع العمل بمبادئ التايلورية، تشغيل
النساء والأطفال، الاستغلال الكثيف لليد العاملة، تدخل الدولة للتنسيق بين قطاعات الدولة
والقطاع الخاص لتلبية حاجيات الحرب..) وشروط إعادة الإنتاج (ضعف الاستهلاك، محدودية
الطلب الاجتماعي). هذا التناقض بين ارتفاع الإنتاج وانخفاض الاستهلاك سينفجر في أزمة
كبرى سنة 1929 في شكل أزمة فيض للإنتاج.
لقد
تطلب الخروج من هذه الأزمة تدخل الدولة كمنظم لشروط الإنتاج وكفاعل اقتصادي ،من اجل
إعادة التوازن بين العرض والطلب. لقد كان هدف تدخل الدولة في تنظيم العلاقات الاقتصادية
والاجتماعية هو دعم الطلب الاجتماعي من خلال سياسة اجتماعية تسمح باستقرار معدلات الربح،
ليس من خلال الاستغلال المفرط والمكثف لقوة العمل، بل من خلال الميزانيات العمومية
(دولة الرعاية الاجتماعية) والتدخل لتنظيم العرض عن طريق القطاع العام بما يسمح بتوجيه
الأنشطة الاقتصادية وتنظيم العلاقة بين مختلف القطاعات الرأسمالية في السوق. وعلى المستوى
السياسي سيتم ماسسة التعاون الطبقي لاحتواء الصراع الطبقي وإقامة نوع من التوافق السياسي
بين البرجوازية والطبقة العاملة.
أزمات رأسمالية "الرعاية الاجتماعية"
مع منتصف 70 ستعرف الرأسمالية انكماشا اقتصاديا من
نوع جديد، مرتبط هذه المرة بمحدودية الأسواق والمنافذ لتصريف البضائع. ورغم الخلاف الكبير بين مختلف المنظرين
والتيارات الاقتصادية حول طبيعة هذه الأزمة (بنيوية أو دورية) فان كل التدابير والسياسات
المتخذة كرد فعل إزاء هذه الأزمة استهدفت إعادة هيكلة بنيوية للرأسمالية: إعادة هيكلة العلاقات بين مختلف أقسام الرأسمال
والعلاقات بين الرأسمال والعمل والتقسيم الدولي للعمل والعلاقة بين السوق القومية والسوق
العالمية، وإعادة النظر في الإطار السياسي و المؤسساتي للتوافق والتعاون الطبقيين(إفراغ
الديمقراطية البرلمانية من محتواها) .
إن حجم وأبعاد التغييرات الهيكلية التي عرفتها الرأسمالية
بعد أزمة منتصف العقد السابع من القرن الماضي، هي تغييرات في حجم التغييرات التي أحدثتها
الحرب العالمية الأولى والثانية : الانتقال من رأسمالية قائمة على تنظيم العلاقات الاقتصادية
والاجتماعية إلى رأسمالية ليبرالية ، كل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية خاضعة لوانين
وقواعد السوق الحرة.
الرأسمالية الليبرالية: طبيعتها وتناقضاتها
رأسمالية السوق الحرة
تميزت الرأسمالية خلال الثلاث عقود الأخيرة من القرن
الماضي(1980 -2008 ) بعد مظاهر رئيسية أهمها:
تحرير
الأسواق وتوحيدها:
تعتبر
السوق الحرة المبدأ المهيكل للرأسمالية الليبرالية. وهكذا بعد صعود الليبرالية الجديدة
في معظم الدول الرأسمالية الصناعية مع بداية عقد 80 من القرن الماضي، شرعت الحكومات
في "تحرير"الأسواق(المالية والتجارية وسوق العمل)من كل الضوابط والقوانين
المنظمة. وبعد تفكيك " رأسمالية الرعاية
الاجتماعية" شرعت الحكومات والقوى الرأسمالية المهيمنة ، مع تأسيس منظمة التجارة
العالمية (OMC ) في فرض نظام التبادل الحر وتوحيد الأسواق على صعيد
جهوي وعالمي.
وهكذا
ستصبح الرأسمالية هي المرادف لاقتصاد السوق والعولمة.
هيمنة الرأسمال المالي:
تشكل الطبيعة المالية علامة مميزة للرأسمالية الليبرالية.
فارتفاع مردودية المضاربات المالية على حساب مردودية
الأنشطة الإنتاجية، سيعزز مكانة ونفوذ الرأسمال المالي، أصبحت معه المؤسسات والشركات
المالية، عبارة عن حكومات موازية تتحكم في السياسات المالية والنقدية للدول. وهذا ما
جعل نعث "الرأسمالية المالية" مطابقا لمظهر الرأسمالية خلال هذه العقود الأخيرة.
اقتصاد المديونية:
بالرغم
من تراجع حصة العمل من فائض القيمة، فان الاستهلاك الجماهيري شكل نسبة 70 % من الإنتاج
الداخلي الخام في معظم البلدان الرأسمالية. وقد تم تحقيق هذا من خلال سياسة تشجيع القروض
الاستهلاكية. فمن اجل تلبية حاجة الرأسمال إلى أسواق ومنافذ جديدة، سيتم اللجوء إلى
آلية القروض الاستهلاكية. فبدل الزيادة في الأجور ومناصب الشغل والتوزيع العدل للثروات،
ستلجأ الحكومات والقوى الرأسمالية إلى توسيع الاستهلاك الجماهيري عن طريق القروض.
ويمكن
اعتبار قروض الاستهلاك هي الحصة المالية المكملة للأجور الفعلية من اجل تلبية الحاجيات
الاجتماعية الضرورية( تمثل قروض السكن 70 %
والنقل والتمدرس25 % من حجم قروض الاستهلاك في الولايات المتحدة الأمريكية).
ومادامت هدف الرساميل هو الربح وليس تلبية الحاجيات
الاجتماعية سيتم تحرير النظام البنكي من القيود في منح القروض ، وهكذا ستشرع الابناك
في منح عدد هائل من القروض وبمبالغ مالية تتضاعف باستمرار، دون اعتبار لقدرات المداخيل
والأجور على التسديد. ولم يعد هدف البنوك وشركات القروض هو منح قروض قصيرة المدى و
قابلة للاسترجاع، بل سيصبح هدفها هو منح قروض متجددة ومدرة للربح باستمرار.
وبفعل تسهيل الولوج للقروض وتخفيض نسبة الفائدة سترتفع
مديونية المستهلكين ( 120 و 140 % من الدخل في الولايات المتحدة الأمريكية) لكن تلبية
الحاجيات الاجتماعية للسكان ودون إشباع جشع الرساميل: الجميع مثقل بالمديونية، مقاولات
وحكومات ومستهلكين
.
تناقضات الرأسمالية الليبرالية
يمكن تركيز تناقضات الرأسمالية الليبرالية في التناقضات
الرئيسية التالية:
1- عدم تطابق حجم الأرباح مع حجم تراكم الرأسمال المنتج
(الاستثمارات المنتجة). فقد تمكن الرأسماليون، من خلال تطبيق سياسات ليبرالية لاشعبية،
من تحقيق معدلات ربح مرتفعة وبمستويات تفوق في بعض الفترات مثيلاتها خلال موجة ازدهار
الرأسمالية. لكن هذا النجاح في مراكمة الأرباح قابله فشل في توسيع حجم الاستثمارات،
وهذا راجع إلى التناقض الثاني.
2- عدم تطابق القدرات الاستهلاكية مع حجم الثروات المنتجة.
فارتفاع إنتاجية العمل من جهة، وانخفاض حصة العمل من الثروات المنتجة( ضعف الأجور والبطالة
الجماهيرية الأجور وانكماش الشغل) سيترتب عنه تراجع في حجم الاستهلاك الجماهيري. فالرأسمال
في تناقض مستمر، فهو يطالب بمزيد من الاستهلاك وفي نفس الوقت بمزيد من التقليص في قيمة
قوة العمل(الأجور) مما يجعل التوفيق بين هذين المطلبين له حدود موضوعية: لا يمكن الاقتراض
إلى مالا نهاية ولايمكن تخفيض الأجور إلى مالا نهاية .
3- عدم تطابق حجم الأرباح مع إمكانيات الاستثمار(أرباح
هائلة ومجالات الاستثمار ضعيفة). وكنتيجة لارتفاع حصة الرأسمال من الثروات وتراجع منافذ
وإمكانيات الاستثمار في قطاعات منتجة، سيتكون فيض من الرساميل. هذه الرساميل ستتوجه
إلى الأنشطة المالية والمضاربات في البورصة لتحقيق معدلات الفائدة.
مع
استمرار الاقتصاد الرأسمالي في الاشتغال بنفس الطريقة (الاختلال في توزيع الثروات-ضعف إمكانيات الاستثمار
–عجز بنيوي في معظم ميزانيات الدول الرأسمالية- ارتفاع مردودية النشاط المالي مقارنة
مع النشاط الصناعي....) ستتضاعف وتتعدد الأنشطة المالية لتأخذ في الأخير شكل أسواق
شبه مستقلة عن الأنشطة الإنتاجية (الاقتصاد الفعلي).
وهكذا ستتحول تدريجا وظيفة الأنشطة المالية ، لتنتقل
من وظيفة تلبية حاجيات المقاولات والحكومات والأفراد من السيولة النقدية إلى نشاط اقتصادي مستقل بذاته ، حيث أصبح للمقاولات
والحكومات والأفراد نشاطا ماليا مستقلا( المضاربات البورصوية).
ومع التشكل التدريجي لسوق رأسمالية عالمية موحدة،أصبحت
الرساميل المالية تتنقل بحرية ودون قيود أو ضوابط،. هكذا ستستفيد الرساميل المالية
من وجود فضاء جغرافي واسع، كما ستستفيد من التطور التقني لتسريع وثيرة تنقلها عبر القطاعات
و القارات( ملايير الدولارات تتنقل في الثانية) بحثا عن الربح.
وسيكتسب الرأسمال المالي قوة هائلة، جعلته يملي على
المقاولات الإنتاجية معايير المردودية ( التداول في البورصة) وعلى الحكومات معايير
السياسات المالية والنقدية والاقتصادية بشكل عام .
وهكذا غيرت العولمة الرأسمالية بشكل جذري طبيعة العلاقة
بين الرأسمال الصناعي والرأسمال المالي ،اد لم تعد العلاقة بينهما علاقة "طفيلية"
كما يزعم منظرو الكينزية الجديدة، بل علاقة ارتباط عضوي لا تسمح بالتمييز بينهما.
مظاهر أزمات الرأسمالية الليبرالية
أزمات مالية دورية:
1- عرفت الرأسمالية الليبرالية تعاقب عدة أزمات مالية
كتعبير مباشر عن عدم استقرار الأسواق بعد تحريرها. وإذا كانت هذه الأزمات قد اتخذت
مظهرا ماليا، فهذا راجع إلى المكانة التي أصبح يحضى بها الرأسمال المالي في الاقتصاد
الرأسمالي، وبالنظر إلى نظام اشتغال الرأسمالية الليبرالية.
مما
يعني أن الأزمات المالية ليست على هامش
"الاقتصاد الفعلي"، بل هي في قلب الرأسمالية الليبرالية.
أزمة القروض:
1- أدى ارتفاع أسعار المواد الأولية والطاقة إلى تعميق
أزمة القروض الاستهلاكية بفعل ارتفاع الأسعار بشكل عام وإضعاف القدرة الشرائية . وسيترتب
عن ارتفاع الأسعار انفجار أزمة غذائية عالمية. وبسبب ارتفاع أسعار مواد البناء والعقار
سيتراجع حجم الطلب وانهيار قيمة العقارات. وهو ما ستتولد عنه أزمة قروض غير مسبوقة:
قيمة القروض أصبحت تفوق قيمة العقارات المرهونة (أزمة الرهن العقاري).
نحو أزمة بنيوية كبرى
إن الأزمة المالية الراهنة تبين فشل تصحيح اختلالات
"الرأسمالية الليبرالية " بواسطة آليات السوق. و هو ما يقود إلى احتمال كون
الأزمة الراهنة هي أزمة كبرى كتعبير عن استنفاد الرأسمالية الليبرالية لإمكانيات استمرارها
. في هذه الحالة سيكون من الضروري اللجوء إلى " عوامل غير اقتصادية" من اجل
إعادة هيكلة قاعدة اقتصادية واجتماعية وسياسية جديدة تسمح باستقرار التراكم الرأسمالي.
لكن ما هي هذه " العوامل غير الاقتصادية" التي ستلجأ إليها الدوائر الرأسمالية
في حال انكماش اقتصادي معمم؟
إمكانيات الخروج من الأزمة: خياران
بالعودة إلى تاريخ الأزمات يمكن الحديث عن شكلين للخروج
من الأزمات، يرتبطان بطبيعة المرحلة الاقتصادية: مرحلة ازدهار أم مرحلة انكماش اقتصادي.
فخلال مرحلة الازدهار يمكن للاقتصاد الرأسمالي الخروج
من الأزمات من خلال عمليات" تصحيح داخلي" تلعب فيها العوامل الاقتصادية دورا
حاسما. وخلال مرحلة الانكماش لا تكفي العوامل الاقتصادية الصرفة لتحريك عمليات تصحيح
داخلي، فيتم اللجوء إلى عوامل "غير اقتصادية" لانقاد الاقتصاد الرأسمالي
من خطر توقف الدورة الاقتصادية.
وقد أثبتت الأزمات التي مر منها الاقتصاد الرأسمالي
صحة هذه الأطروحة. فإذا ما أخذنا على سبيل المثال الأزمة الكبرى التي عرفها الاقتصاد
الرأسمالي في 1929 فسنجد أن الخروج من هذه الأزمة لم يكن ممكنا من خلال عمليات تصحيح
داخلي، بل فقط من خلال تدخل عوامل غير اقتصادية (الحرب) .
لكن إذا ما أخذنا أزمة 74-75 فسنجد أن الرأسمالية استطاعت
تفادي توقف مفاجئ للدورة الاقتصادية، من خلال إعادة هيكلة عميقة للاقتصاد الرأسمالي،
وهو ما سمح باستعادة معدلات الربح والنمو بنسب تعادل أو تفوق تارة معدلات مرحلة الازدهار.
وإذا ما قارنا بين شكل الخروج من الأزمة الأولى والثانية
يمكن أن نستنج تدخل عامل آخر في تحديد شكل وطريقة الخروج من الأزمة.
فإذا
كانت موازين القوى الموروثة عن مسلسل الثورة الاشتراكية قد سمح بإعادة ضبط الرأسمالية
وكبح جماحها وتنظيم وتقنين العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، فان الاختلال النوعي لموازين
القوى على الصعيد العالمي مع منتصف 70 من القرن الماضي، سيسمح للقوى الرأسمالية العالمية
بتجاوز الأزمة الاقتصادية عن طريق تفكيك كل أشكال الضوابط والقوانين الموروثة عن رأسمالية
الرعاية الاجتماعية وإعادة هيكلة جذرية للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وإطلاق جماح
الرأسمالية لنهب الشعوب والطبقات الشعبية.
السؤال ادن، ليس هو:هل يمكن الخروج من الأزمة بل كيف
سيتم الخروج من الأزمة؟ أي تحديد طبيعة الخيارات الطبقية المطروحة وتحديد تكلفتها الاقتصادية
والاجتماعية ومن سيؤدي الثمن ؟.
إن
المسالة تتلخص في طبيعة الاختيارات الطبقية التي سيتم تطبيقها للخروج من الأزمة: اختيارات
معادية للرأسمالية أم اختيارات رأسمالية.
الخيار المناهض للرأسمالية:
إن أزمات الرأسمالية الليبرالية هي أزمة شاملة( إيديولوجية
واقتصادية ومالية واجتماعية وبيئية وسياسية وعسكرية).
ودون الدخول في التفاصيل والتجسيد البرنامجي لما يجب
أن يكونه مشروع بديل لازمة الرأسمالية الليبرالية،وعلى عكس أنصار مشروع انقاد الرأسمالية
من الجرثومة الليبرالية، من كينزيين جدد أو ليبراليين غيروا عقيدتهم الليبرالية بعد
أن ساهموا بالأمس في تطبيق سياساتها الاقتصادية، يجب على أنصار الخيار المناهض للرأسمالية بلورة بديل شامل لازمة الرأسمالية الليبرالية.
إن الهدف الذي يجب أن يشكل محور نضال الحركات الاجتماعية
واليسار المناهض للرأسمالية هو إعادة النظر بشكل جذري في مخلفات الليبرالية الجديدة،
ليس بالعودة إلى "رأسمالية اجتماعية" برعاية الدولة، بل من اجل التقدم نحو
بديل اجتماعي معادي للرأسمالية. وهو ما يستوجب بلورة برنامج اقتصادي استعجالي ينطلق من:
1- إعادة النظر في مخلفات
ونتائج برنامج التقويم الهيكلي المرافق لصعود الليبرالية (برنامج تقويم هيكلي مضاد).
2- إعادة النظر في آليات ومؤسسات واتفاقيات التبادل الحر
(العولمة الليبرالية
).
3- إعادة النظر في سلطة المقاولات والشركات والمؤسسات
المالية والتجارية ( الديمقراطية الليبرالية).
ويستهدف
إعادة النظر في الإصلاحات الليبرالية على المستويات التالية:
1- علاقات الشغل وتنظيم سوق العمل:
2-البنيات الاقتصادية والمالية وعلاقتها بالسوق الخارجية.
3-العلاقات الاقتصادية الدولية والعلاقة مع السوق العالمية.
4- علاقة الاقتصاد بالبيئة .
5-علاقة المؤسسات التمثيلية المنتخبة بالمقاولات الصناعية
والمالية.
لكن هل يمكن لنظام اقتصادي منطقه الداخلي هو تحقيق
الربح، وليس إسعاد الإنسان وتحقيق الرخاء للبشرية، أن يتحمل هذه الحلول؟ . لا طبعا.
الخيار الرأسمالي:
في
ظل موازين القوى الحالية يبقى الاحتمال الوارد هو تعميق الإصلاحات الليبرالية اللاشعبية
وتعميق الاختلال في توزيع الثروات. ومن المحتمل إدخال تغييرات تدريجية على العلاقة
بين الدولة والرأسمال (خصوصا الرأسمال المالي)
لكن من المستبعد إعادة النظر بشكل نوعي في العلاقة التنافسية بين الرساميل وفي
العلاقة بالسوق العالمية(التجارة الحرة).
ومن المرتقب إعادة صياغة موازين القوى داخل المؤسسات
الرأسمالية العالمية المالية والتجارية( صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة
التجارة العالمية) لكن إدخال تغييرات جوهرية على مستوى العلاقات الدولية بين القوى
الرأسمالية العالمية سيتوقف على شكل الخروج من الأزمة الحالية.
كرونولوجيا الأزمة الاقتصادية الأمريكية
2001 : أزمة فائض الإنتاج:
عرف الاقتصاد الأمريكي عدم تطابق ارتفاع الإنتاج القومي مع القدرات الاستيعابية للسوق القومية،أدى إلى إفلاس
العديد من الشركات بسب عجزها عن تصريف بضائعها. وبلغ معدل خسارة هذه الشركات نسبة
4 % في سنة 2000 ونسبة 6 % في سنة 2001.
الليبراليين
المحافظين وعلاج الحرب:
من اجل احتواء أزمة فائض الإنتاج لجــأ الليبراليون
المحافظون في الولايات المتحدة الأمريكية و شركاؤهم الانجليز إلى:
1- الحرب
كآلية لحل التناقض بين العرض والطلب، بعد فشل آليات وقواعد السوق. وقد كان الهدف هو:
التحكم
في الطاقة والمواد الأولية ودعم الطلب عن طريق خلق طلب عمومي (حاجيات الحرب).
وهكذا
بعد احتلال افغانسان في 2001 ارتفعت أرباح الشركات بمعدل 15.5 % . وبعد غزو العراق
ارتفع معدل أرباح الشركات إلى 24 %.
2- تخفيض معدلات الفائدة (بنسبة 1 %) وتسهيل الولوج إلى
القروض من اجل إنعاش الاستهلاك.
وهي إجراءات عمومية تنبث عجزاليات السوق الحرة عن احتواء
اختلالات اقتصاد السوق.
2005 : أزمة القروض العقارية:
مع بداية 2005 ستعرف معدلات الفائدة ميلا نحو الارتفاع
(6.5(% وهو ما سيترتب عنه ارتفاع فوائد قروض
الإسكان وبالتالي عجز أصحاب القروض العقارية عن التسديد. وهكذا ستلجأ البنوك إلى مصادرة
عقارات من هم في حالة عجز عن تسديد ما بذمتهم من قروض (700 ألف أسرة ستفقد مسكنها يوميا
بسبب العجز عن الأداء). وسيصل عدد الدين تمت مصادرة مساكنهم إلى مليون أسرة و8 ملايين
في وضعية صعبة.
لكن الابناك لا تتداول في المنازل، كما أن مصادرة المنازل
لا تحول دون إفلاس الابناك والشركات العقارية.
محدودية الحلول الليبرالية:
من اجل انقاد الابناك والشركات العقارية من الإفلاس
لجأت الحكومة الأمريكية في 2007 إلى:
1- ضخ أموال عمومية (300مليار دولار). لكن هذا الأجراء
لم يكن كافيا لاحتواء الأزمة، فحجم القروض غير القابلة للاسترجاع كان يفوق حجم الأموال
المخصصة لأبناك المفلسة.
2- تخفيض معدل الفائدة إلى 5 % (2007) ثم إلى 2 %
(2008). لكن هذا الإجراء جاء متأخرا، لان مئات الآلاف من الأسر فقدت منازلها ووظائفها،
والملايين من الأسر عاجزة عن تسديد ما بذمتها من قروض. أما قيمة العقار فقد أصبحت اقل
من الحجم الاجمالي للقروض.
المغرب :مسارات الأزمة
الاندماج في العولمة يعني استقبال أزماتها
رغم عدم تعرضه لهزات مالية، فان الاقتصاد المغربي سيكون
من بين الاقتصاديات الأكثر تضررا من الأزمة المالية العالمية ،مع انتقال آثار الأزمة
المالية إلى الاقتصاد الفعلي. لكن علينا أولا تفسير لمذا لم يتأثر المغرب بالأزمة المالية
مباشرة.
هناك
أولا ضعف القطاع المالي نفسه، خاصة نشاطه الخارجي. و هناك من جهة أخرى علاقة القطاع
المالي بالطبقة الحاكمة. فالتدخل القبلي للدولة،
من خلال مؤسسات عمومية وموازية، لحماية القطاع المالي سيشكل ضمانة وحماية للبنوك والشركات
المالية.
لكن
عدم تأثر البنوك والشركات المالية بالأزمة المالية العالمية،لا يعني أن الاقتصاد المغربي
محصن ضد الأزمة، لعدة اعتبارات: أولا اندماج الاقتصاد المغربي في العولمة الرأسمالية
من موقع تبعي، وثانيا ارتباط المغرب بعدة اتفاقيات للتبادل الحر وخضوعه لاتفاقيات منظمة
التجارة العالمية، وثالثا بسبب تبعيته المالية،
سواء من خلال مديونيته الخارجية أو من خلال اعتماده على الاستثمارات والعائدات المالية الخارجية.
هذا ما سيجعل الاقتصاد المغربي، ليس فقط معرضا لتأثير
الأزمة العالمية، بل هو معرض لخطر انهيار نموذجه الاقتصادي، بالنظر إلى هشاشته البنيوية
واعتماده بشكل أساسي على السوق والتمويل الخارجيين: المناولة والخدمات غير المنتجة
للثروات والصادرات والتمويل الخارجي.
ومن المتوقع أن تهز الأزمة أركان الاقتصاد المغربي :
1-الصادرات:
يرتكز
الاقتصاد المغربي، كما هو معروف، على الصادرات (المواد الأولية، والفلاحية، والمواد
المصنعة وشبه المصنعة..) وكل تراجع في حجم الطلب الخارجي سيعمق من أزمة القطاعات التصديرية.
"نحن ننتظر انخفاضا في الطلب بنسبة 8 إلى 10 % خلال
الأشهر القادمة" حسب تصريح محمد النازي عضو الجمعية المهنية لقطاع النسيج.
وفي
حال تراجع الطلب الخارجي بنفس النسبة في باقي
القطاعات، فان الميزان التجاري الذي سجل عجزا وصل إلى 80 مليار درهم خلال النصف الأول
من هذه السنة، سيرتفع على الأقل بنفس النسبة.
2- السياحة:
سيعرف
قطاع السياحة هو الآخر ظرفية صعبة لا يمكن توقع حجمها قبل هذا الصيف. لكن من السهل
جرد الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالسياحة (الفندقة، النقل، الصناعة التقليدية....)
حتى يمكننا توقع حجم الخسارة .
3-الطلب على العقار:
صحيح
أن الشركات العقارية تستفيد من الأراضي العمومية والجماعية ومن ضمانات الدولة والمؤسسات
شبه العمومية الموازية، لكن هذا لا يحمي القطاع من تراجع الطلب. فمنتوج "السكن
الاقتصادي" سيتراجع الإقبال عليه نظرا للتراجع الموضوعي للزبناء ونظرا لتأثير
الأزمة على هذه الفئات (صغار الموظفين والمهاجرين، والتجار والحرفيين...) كما أن الطلب
الخارجي على العقار سيتراجع هو الآخر بفعل تأثير الأزمة.
4-الاستثمارات الخارجية المباشرة:
من
المتوقع تراجع حجم وقيمة الاستثمارات الخارجية، وهو ما يعني تراجع احد عناصر تمويل
نمو الاقتصاد المغربي. فضعف السوق الداخلية لايسمح بجلب استثمارات خارجية منتجة، كما
أن تراجع الطلب الخارجي سيترجم في شكل تراجع لحجم الاستثمارات الخارجية والداخلية على
السواء.
5- عجز الميزانية:
إن
احد أهم تجليات الأزمة المالية العالمية سيتجلى في تفاقم عجز الميزانية. وباستحضار
تراجع عائدات الدولة من المؤسسات العمومية والجمارك وجمود عائدات الخوصصة.....فان الطبقة
المتحكمة في سلطة الدولة لن تجد من خيار أمامها غير الرفع من الضرائب وتفويت ما تبقي
من مرافق وخدمات عمومية والانصياع للأطماع الخارجية والتنازل عن الثروة الوطنية (الصيد
البحري) والسيادة الوطنية (منح حلف شمال الأطلسي قواعد عسكرية) لمواجهة عجز ميزانية
الدولة. أي تعميق السياسات اللاشعبية والتبعية للامبريالية.
خاتمة:
إجمالا سيعرف الاقتصاد المغربي "سكتة قلبية جديدة"
بفعل ضعف رئة تنفسه الداخلي واختناق رئة تنفسه الخارجي.