5:04 م

اليسار المغربي والمسألة الاجتماعية



تحتل المسألة الاجتماعية مكانة هامة في تاريخ اليسار العالمي بالنظر إلى كونها عصب عملية التغيير الاجتماعي. وفي المغرب لعب اليسار أدوار طلائعية في قيادة النضال الاجتماعي منذ الاستقلال، إلا أن سياسة القمع والاحتواء التي اتبعها النظام الملكي منذ انتفاضة 1956، إلى اليوم ساهمت في تآكل قوى اليسار وفي الضغط على الأحزاب الإصلاحية للدخول إلى اللعبة السياسية.
وفي نفس الوقت شجع الحركات السلفية الرجعية على التغلغل في المجتمع وفي الحركة الاجتماعية للحد من تنامي اليسار بمختلف أطيافه وكانت البداية في اواخر الثمانينات وبداية التسعينيات في الحركة الطلابية
.
شكلت "حكومة التناوب"، محطة هامة ـ من زاوية التحليل السياسي ـ في تاريخ المغرب السياسي بالنظر إلى انحياز قواها للسلطة السياسية وتطبيقها للسياسات النيوليبرالية التي أجهزت على مكتسبات الشعب المغربي. وسنحاول هنا بيان تأثير هذه السياسات على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمغاربة من خلال نموذج التقويم الهيكلي، لرصد عمق المسألة الاجتماعية اليوم في أي نقاش سياسي، ولبيان أي أفق ممكن وبديل للنضال الاجتماعي وتحديد آليات تفعيل النضال المشترك بين القوى اليسارية المناصرة لقضايا الشعب.
أولا: المغرب وتأثير السياسات النيوليبرالية على المجتمع المغربي:
سنحاول هنا الوقوف على العقود الثلاثة الأخيرة من تاريخ المغرب السياسي بالنظر إلى التحولات العميقة التي أدت إليها سياسة التقويم الهيكلي في بنية المجتمع ككل. ذلك أن التيه الذي أصاب الأذهان اليوم في المغرب لا ينفصل عن حالة التيه التي يعيشها العالم اليوم جراء تحكم الامبرياليات في مصير الشعوب، وليس يظن أحد أن بإمكانه وبمقدرته الجواب على مستقبل العالم.
سأكتفي بعرض العناصر الكبرى الموجهة للسياسات النيوليبرالية ونتائج التقويم الهيكلي تحديدا دون الدخول في التفاصيل التي تعرفونها وتتابعونها عن كثب.
أدى تطبيق سياسة التقويم الهيكلي إلى:
أ‌.             إلغاء اجراءات دعم المواد الأساسية؛
ب‌.           تقليص المصاريف العمومية لتحقيق توازن في ميزانية الدولة على حساب القطاعات الاجتماعية؛ (الصحة، التعليم، السكن، البنيات التحتية...) ناهيك عن تجميد الاجور وتسريح العمال...؛
ت‌.           خفض العملة المحلية مما أدى إلى انهيار القدرة الشرائية وارتفاع الديون الخارجية؛
ث‌.           رفع معدلات الفوائد لجلب الرساميل الاجنبية على حساب الشركات والمقاولات المحلية؛
ج‌.            الرفع من الصادرات قصد اداء الديون وفتح الاسواق المحلية والغاء الحواجز الجمروكية؛
ح‌.            تحرير الاقتصاد؛ وخاصة التراجع عن مراقبة حركة الرساميل والغاء مراقبة الصرف؛
خ‌.            خوصصة جميع المرافق العمومية وتراجع دور الدولة؛
د‌.             سياسة الجبايات وما نتج عنها من تفاوتات اجتماعية: خفض الرسوم الجمروكية ورفع الضرائب المباشرة وغير المباشرة.

وهي نتائج ساهمت في تدهور أوضاع المغاربة على جميع المستويات، نتيجة تعميق التخلف الصناعي وتدمير البنية الصناعية الهشة أصلا، وتهميش شريحة واسعة من المنتجين الصغار والمتوسطين. فالبنية الصناعية بالمغرب تتميز ب:
أ ـ تركز الرساميل في يد عدد صغير من المجموعات الكبرى المحلية المرتبطة بالرأسمال المالي الاجنبي؛
ب ـ هيمنة نسيج مقاولاتي صغير ومتوسط يمثل 93 % من المقاولات الصناعية أكثر من نصفها 63 % غير مهيكل في حين ان المقاولات الكبرى من نصيب الملكية؛
ج ـ تواجد الرأسمال الأجنبي بقوة أكثر من النصف تستحوذ عليه الشركات الفرنسية بمعدل 750 مقاولة متعددة الجنسية من اصل 1200.
يتميز الاقتصاد المغربي بكونه اقتصادا هشا لا يملك أية بنية صناعية وانتاجية قادرة على منافسة الدول الصناعية، وهو يعتمد منذ الاستقلال على الفلاحة التي أحدثت فيها السياسات النيوليبرالية تبدلات حقيقية أدت إلى:
             تدمير الزراعات المعاشية وتقوية الصناعات الفلاحية الموجهة للتصدير وتهميش الفلاحين الصغار وتفقيرهم (نضالات القرى والهوامش يسبب انفجارات محلية قوية: صفرو ايفنيالشليحات...)؛
             غياب السيادة الغذائية وفقدانها وتأثير العولمة على الأسعار وربط الاقتصاد والتجارة المحليين بالسوق الدولية.
من الطبيعي جدا أن تركز الرساميل في يد "العائلة الملكية" وبعض العائلات الكبرى المحيطة بها (يحصيها بعض الاقتصاديين الخبراء في 300 عائلة)، سيؤدي حتما إلى تفقير الشعب المغربي عبر الحد من اتساع الطبقة المتوسطة وترك البرجوازية الصغيرة في أسفل الهرم الاجتماعي. لذلك عمل النظام السياسي الحاكم لضمان استحواذه على ثروات المغرب وتقاسم جزء منها مع الامبريالية العالمية (وخاصة الفرنسية)، على تنفيذ سياسات التقشف المملاة من طرف مؤسسات بروتنوودز لضمان تسديد الديون. وقد ساهمت هذه السياسة في ضرب الحماية الاجتماعية الضعيفة أصلا عبر نهب صناديق التقاعد والضمان الاجتماعي، والعمل على مأسسة "الاقتصاد الاجتماعي" الذي تسعى البرجوازية لغزوه، كما أدى تقليص المصاريف العمومية إلى ضرب مجانية الصحة وتصعيب الولوج إلى العلاج وربطه بالأداء من خلال نظام السيجما (الأداء قبل العلاج)، ناهيك عن الإجهاز على الحق في التعليم وضرب المجانية والاتجاه نحو خوصصته وما رافقها من تعزيز اقتصاد المدرسة بحيث أصبحنا اليوم أمام:
-         المدرسة / المقاولة الخاضعة لمنطق رب العمل والعامل والبضاعة؛
-         سوق الشواهد والديبلومات؛
-         التكوين مدى الحياة وتعدد التكوينات لولوج مهنة واحدة؛
-         تسليع الكتب المدرسية...
ثانيا: خفوت الفعل السياسي وصعود النضال الاجتماعي
أولا: في الفعل السياسي
يتسم الفعل السياسي في المغرب بنوع من الركود، ساهمت فيه عوامل عدة أهمها:
             خفوت الفعل اليساري بتياريه الاصلاحي والجذري (الثوري).
             صعود حركات السلفية الرجعية.
             ارتماء الملكية في أحضان الامبريالية والتقوية بذراعها السياسي وقوتها الاقتصادية وجناحها العسكري.
لقد عمل النظام السياسي على التحكم في اللعبة السياسية منذ تمكنه من القضاء على الانتفاضات العفوية التي فجرتها سياسة التقشف (التقويم الهيكلي) على التوالي: 1981، 1984، 1991، بحيث استطاع أن يلف حوله كل القوى اليمينية (الأحزاب الإدارية والجمعيات والنقابات الملحقة بها)، وأن يضمن أيضا بناء تكتل سياسي قوي تحت اسم "الكتلة الديمقراطية" التي أدمج في صفوفها الاتحاد الاشتراكي الذي ظل يشكل قوة سياسية أولى في المغرب. فإلى حدود دستور 1996 كان هذا الحزب يتحكم في الفعل السياسي بامتداده الجماهيري (النقابي والجمعوي...)، ومع بداية "حكومة التناوب" بدأ الخطاب اليساري يعرف تراجعا حقيقيا وقويا داخل الفعل الاجتماعي، مما أتاح الفرصة لانغراس حركات السلفية الرجعية التي عززت سيطرتها اليوم على الفعل الاجتماعي.
شكلت تجربة التناوب نكسة للفعل السياسي بالمغرب. وتنامت نزعة اللاتسييس وفقدان الثقة في الفعل السياسي عامة، مما أبعد العديد من القوى التي كانت مرتبطة بالمشروع اليساري عامة (أطروحة الاشتراكية)، بالإضافة إلى ما نتج عن تطبيق السياسات النيوليبرالية من تفكك في بنية المجتمع.
ثانيا: في الفعل الاجتماعي
أدى تطبيق سياسة التقويم الهيكلي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزت وساهمت في ولادة فعل اجتماعي من نوع جديد تشكل الحركات التالية عصبه:
1-            حركة العاطلين بمختلف أطيافها؛
2-            حركة القرويين الاحتجاجية ضد: نزع الأراضي، تدهور القدرة الشرائية، وتدمير الخدمات الاجتماعية وانعدمها حتى كالتعليم والصحة، الطرقات، الماء والكهرباء...؛
3-            حركات المتضررين الاحتجاجية في الحواضر من أجل السكن اللائق، والتدهور البيئي وخوصصة الخدمات العمومية الاجتماعية: الماء والكهرباء، التعليم، الصحة (تطبيق نظام الاداء قبل العلاج: السيجما SEGMA)...؛
4-            تنسيقيات مناهضة ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة؛
5-            النضالات الطلابية والتلاميذية من أجل تعليم عمومي ومجاني جيد وضد أوضاع التمدرس؛
6-            تنسيقيات نقابية من نوع جديد: ذي طبيعة فئوية، أي نضالات الفئات في صفوف النقابة الواحدة وتنسيقها مع نفس الفئة من نقابات أخرى: الفئات في صفوف المدرسين في كل الاسلاك وهي الاكثر حدة وقوة بالنظر الى المشاكل العديدة والمعقدة التي يعرفها هذا القطاع منذ ثلاثة عقود خلت، موظفو الجماعات المحلية والبريد والاتصالات والعدل... وقد تعززت هذه التنسيقيات ببناء اتحادات جديدة فئوية وقطاعية ذات مطالب محددة. وقد أدى إلى هذا الوضع النقابي الجديد تحكم البيروقراطيات في القرار واختلال موازين القوى لصالح النظام السياسي ناهيك عن تفكك حزب الاتحاد الاشتراكي وأثره في تشتيت النقابة الاكثر كفاحية (كدش). فسيرورة التبقرط النقابي وتناقضات قياداتها أدت إلى فكاك العديد من القطاعات بقيادة طليعة جديدة متنامية، مدعومة بالقيادات الانتهازية، النفعية، والبرغماتية المنزع؛
7-            الجمعيات التنموية: وإن كانت بادرة خلق هذا الفعل الجديد يعود إلى توجيهات الامبريالية العالمية ومباركة الانظمة السياسية المحلية لتخفيف وقع تأزم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فإنها اتخذت منحى جديدا يروم بناء مقاومات قاعدية بفعل انخراط جزء مهم من جريجي الجامعات المسيسين (خاصة الطلبة اليساريين) الذين لم يرتبطوا بالعفل السياسي المباشر والذين تدمروا من خفوت حركة اليسار وعدم قدرتها على بلورة وحدة جذرية أو تحالف سياسي في نقاشات التجميع اواسط التسعينيات؛
لا يسعنا المجال هنا للتدقيق أكثر في كل تفاصيل هذه الحركات وفي أشكالها الجديدة في الاحتجاج وقاعدتها الاجتماعية وطبيعة مطالبها لرصد بنياتها وآلياتها واستراتيجيات فعلها، ولكننا نؤكد أن ظهور هذه الحركات وتناميها يتسم بنوع من الحيوية ويتجه نحو التجذر لإدراكها عمق الأزمة الحقيقية ووقع المخططات الكبرى التي حيكت ضد الشعب المغربي إبان التناوب وبعده.
ثالثا: آفاق النضال الاجتماعي بالمغرب ومهام اليسار
أمام تصاعد دينامية النضال الاجتماعي الذي شكلت حركة 20 فبراير تعبيره النوعي نؤكد أن بناء حركة جماهيرية واسعة يستوجب من قوى اليسار النضال سياسيا من أجل:
1)            وقف تنفيذ السياسات النيوليبرالية؛
2)            وقف تسديد الدين وإلغاء خدمة الدين؛
3)            تأميم المؤسسات الاستراتيجية الخاصة؛
4)            وقف مسلسل الخوصصة وإعادة تملكها واسترجاعها؛
5)            برنامج الاصلاح الزراعي؛
6)            بناء اقتصاد وطني متمركز على تلبية الحاجات الاساسية للشعب المغربي تلعب فيه الدولة دورا محوريا المقصود الدولة الوطنية الديمقراطية المبنية على أسس دستورية جديدة: اصلاح سياسي شامل يقطع مع الريع والاستبداد والفساد ويحقق السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية؛
7)            برنامج الاصلاحات الاجتماعية الجذرية.
يتضح اليوم- أكثر مما مضى -أنه لا مجال للمزايدة بين القوى اليسارية الثورية، فلا فكاك من وضع حد فاصل بين التيارات المناصرة لقضايا الشعب المغربي، وبين القوى التي اصطفت إلى جانب الحكام، مما يعني أن إرساء النضال المشترك لن تكون إلا مع التيارات المناضلة إلى جانب المقهورين، من خلال:
1 – توفير فضاءات ديمقراطية حقيقية للنقاش العمومي الواسع المبني على التداول والمشاركة لتحقيق الاجماع ولا يمكن ان يكون الا المنتدى الاجتماعي المغربي فلنعمل على إعادة بنائه؛
2 – جبهة للنضال الاجتماعي تضم الحركات المحلية والوطنية وربطها بالحركة الدولية؛
3 – اعادة التفكير في البنيات التنظيمية المرنة والاستفادة من التجارب الدولية والقطع مع التطابق الكلاسيكي بين الفعل السياسي والفعل الاجتماعي؛
4 –دعم الحركات الاجتماعية الجديدة.
صحيح أن النقاش يستدعي مزيدا من الوقت لبلورة أطروحات دقيقة حول سبل النضال المشترك، ولكن من الأكيد أن مبدأ "السير معا والضرب على حدة" يستوجب أمرين:
1.            القطع مع الخيارات السياسية النيوليبرالية وإعادة النقاش حول الاشتراكية كمشروع مجتمعي؛
2.         اعادة بناء الحركة الاجتماعية والجماهيرية بكل روافدها نحو التغيير الاجتماعي.