5:21 م

النضال ضد الاستلاب الديني من منظور الاشتراكيين الثوريين



يعود اهتمام الاشتراكيين الثوريين بالنضال السياسي ضد الدين الى موقف كارل ماركس من اطروحة هيجل وفيورباخ. حيث عمل على بيان ما يمثله الدين من استيلاب حقيقي لوعي الانسان وابعاده عن فهم حقيقة الصراع الطبقي. ففي مقالته الشهيرة "نقد فلسفة الحق عند هيجل" (كتبت اواخر عام 1843 ونشرت في الحوليات الفرنسيةالالمانية باريس 1844)، يؤكد أن الإنسان هو من يصنع الدين وليس العكس، ويدعو إلى "أن يتحول نقد السماء إلى نقد الأرض، ونقد الدين إلى نقد الحق، ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة".
لقد كان هاجس ماركس تحديدا، هو عدم صرف الانتباه الى الوعي الزائف والمغلوط الذي تكرسه الايديولوجية الألمانية (التي سيكتبها لاحقا سنة 1844) عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية، تلك الايديولوجية التي يمثل هيجل أنموذجها الأول. وقد كرس جزء مهما من حياته للنضال ضد هذا الوعي المغلوط.

صار هذا النهج واضحا في تراث الماركسية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم يختلف الماركسيون في تحليلاتهم كثيرارغم التباينات الايديولوجية بينهمبل اختلفوا في التقديرات التكتيكية والخطط السياسية في تدبير المسألة الدينية في المجتمعات الاشتراكية، حيث احتد النقاش في التجربة السوفياتية وفي البلدان الاشتراكية الاخرى.
لن نقف هنا على مسار تطور موقف الماركسية من الدين، أو المبررات الايديولوجية والسياسية التي ساقها منظرو الماركسية عبر التاريخ من النضال ضد الدين، ولكننا سنولي اهتماما خاصا لسؤال محوري يبدو ضروريا اليوم، ويستوجب وضع بعض الأفكار الضرورية لخوض هكذا نضال سياسي ضد التيارات السلفية الرجعية بمختلف أنواعها، والتي تسعى إلى استغلال الدين لتحقيق مآرب سياسيةطبقية في نهاية المطاف. ولخوض نضال حقيقي ضد التعمية التي تمارسها وسائل الاعلام ضد جمهور عريض بغرض نشر وعي مغلوط وزائف عن الأوضاع الحقيقية للجمهور العريض من الفئات الشعبية.
يتعلق السؤال محور هذا الموضوع ب: أي منظور للاشتراكيين الثوريين بالمغرب للمسألة الدينية؟ ما هي مجالات نضالنا السياسية ضد حركات السلفية الرجعية؟ كيف تعمل الدولة المغربية (وبالأخص النظام السياسي المستبد) على توظيف حركات السلفية الرجعية للحفاظ على نفس علاقات الانتاج؟

الحاجة إلى تبرير نضال سياسي ضد استغلال وتوظيف الدين في الصراع الاجتماعي:

من المؤكد أن أبحاث هيجل وكانط وفيورباخ وماركس، والالحادية المتنامية مع فلسفة الأنوار، ستمهد حصرا إلى ظهور، علم الأديان المقارن، الهيرمينوطيقا l’herméneutique (علم التأويل)، علم الاجتماع الديني، أنثروبولوجيا الأديان... والتي ساهمت بشكل كبير في تعميق البحث في ماهية الدين وفي التاريخ المزور للأديان، وفي لا علمية الأساطير الدينية... وقد شكلت كل الجهود المبذولة في مختلف العلوم أساس الفهم المادي للدين كما بلورته التيارات الماركسية في القرن العشرين. واليوم قد صار الفهم المادي للدين أمرا بديهيا عند العلماء. فمختلف العلوم كرست فهما ماديا لحقيقة الوجود البشري، وللطابع المادي لنشوء الكون، وذلك بفضل تنامي النزعة الوضعية ودورها المحوري في التوكيد على مكانة العلم في التقدم البشري. بحيث لم يعد في التراث الغربي شك في أن الدين:
-          مثل مرحلة بدائية في تطور الوعي البشري؛
-          لا يمكنه أن يواكب التقدم العلمي والحضاري؛
-          يوظف لتكريس مصالح اقتصادية ومادية مباشرة (أطروحة ماكس فيبر: الرأسمالية وروح البروتستانتية)؛
-          لا يمكنه أن يجيب على مشكلات الانسان المعاصر؛
-          مجرد مقاربة نسبية للوضع البشري، ولا يمكن الاعلاء من مكانتها امام المقاربة الفلسفية والعلمية....
-          يوظف سياسيا لتدبير ازمات الرأسمالية.
أما في تراثنا فإن التاريخ يشهد (على الاقل في تجارب الإسلام والشرق) على تنامي تيارات ونضالات فردية وجماعية ضد التسلط الديني وضد توظيفه في الحياة العامة. إلا أن الاجتهادات الكبرى لم تدشن بشكل جريء إلا في القرن العشرين مع كبار المفكرين. وسيتعاظم التفسير العلمي للظاهرة الدينية والبحث الانثروبولوجي في تاريخ الاسلام وتاريخ الرسل والرسالات والتأويلات التي تذهب مباشرة إلى التاريخ المدون: السير، الأحاديث، المذاهب، الفقه... في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، مع أركون، نصر حامد ابو زيد، حسين مروة، صادق جلال العظم، عبد الله القصيمي، فراس السواح، جلبير الأشقر، طارق علي، جواد علي، نبيل فياض...   
وبالموازاة مع النضال الفكري، خاض اليسار في تراثنا نضالا سياسيا حقيقيا من أجل بناء اشتراكية على مقاس النموذج السوفياتي. وأولت العناية للنضال ضد استغلال الدين وتوظيفه في تدبير الشأن العام، وناضلت أيضا ضد التيارات السلفية الناشئة مع حركة الاخوان المسلمين، ومع الحركة الاصلاحية القومية. وفي بعض التجارب طرحت الاحزاب التقدمية والديمقراطية مسألة العلمانية كحل سياسي للمسألة الدينية، إلا أن جل البلدان العربية لم تشهد تجارب علمانية حقيقية، باستثناء تونس التي شكلت مثالا حيا لدولة علمانية، ولكنها رغم ذلك لم تفرض رقابة مدنية ومؤسساتية على المؤسسات الدينية، وظلت الاماكن الدينية مرتعا انتعشت ونمت داخله حركات الاسلام السياسي، فحتى تونس كانت موطنا حقيقيا للمتأسلمين. ونؤكد هنا أن السؤال المطروح أعلاه يستوجب التمييز بين الحديث عن المسألة الدينية التي تندرج ضمن مشروع مجتمعي يقترح حلا علمانيا وحداثيا لحضور الدين في المجتمع، أو احتكار المؤسسات الدينية من طرف السلطة السياسية لتبقى رهينة استراتيجياتها ومنظورها كما هو الحال في جل البلدان العربية حيث تقف المؤسسات الدينية ومجمل الحقل الديني الى جانب الانظمة الاستبدادية، وبين الحديث عن حركات الاسلام السياسي. ونؤكد ان ما يهمنا اليوم هنا هو حركات السلفية الرجعية التي باتت تقف اليوم حجر عثرة امام أي بديل اشتراكي ممكن في العالم العربي لأسباب عدة:
  • وقوفها المستميث الى جانب بعض الانظمة السياسية الاستبدادية، لوأد الحركة الشيوعية في مختلف البلدان؛
  • خدمتها المباشرة لمصالح الامبريالية العالمية عبر تنفيذ توصيات المؤسسات المالية العالمية، وبرامج التقشف ضد الجماهير الشعبية؛
  • طبيعة مشروعها الفاشيالرجعي الذي يستند على ثيولوجيا بائدة، تؤمن بالحكم الاستبدادي المطلق. وحتى نضالها السياسي ضد ما تسميه الأنظمة الاستبدادية، هو مجرد قناع لاستبداد لا يقل ديكتاتورية من استبداد الانظمة القائمة؛
  •  تعارض ايديولوجيتها مع الايديولوجية الماركسية، وتعزيزها وتكريسها لنظام التفاوتات الطبقية، بل ووقوفها الى جانب المشروع البرجوازي.
ومع ذلك فإن تنامي تيارات السلفية الرجعية في القرن العشرين، وتعاظم قوتها "الجهادية"، بفضل توظيفها من طرف الأنظمة الاستبدادية للحد من المد اليساري والحركات الاشتراكية والشيوعية في النصف الثاني من القرن العشرين، وبالموازاة مع تطبيل الامبريالية لحوار الأديان وتهييج الأذهان بأسطورة نهاية التاريخ، وتحوير الصراع السياسي والاجتماعي إلى الصراع الديني، بدأت بعض الاطروحات التي كانت هامشية في تاريخ اليسار، والتي تعبر عن موقف وسطي يدعو إلى لاهوت التحرير واليسار المتدين، في الظهور من جديد. فبعد الصراع المرير بين تيارات اليسار والأنظمة الاستبدادية والذي كان من نتائجه تدمر قوى اليسار وتخلفها عن مواقعها في التنظيمات التقدمية والديمقراطية، استطاعت قوى السلفية الرجعية غزو الحركات الاجتماعية والتنظيمات النقابية والسياسية والجمعوية، وتحولت الى منفس لأزمة الانظمة الاستبدادية عبر قبولها للواقع كما هو بتبريرات ايديولوجية دينية لا تعبر عن أي رفض لأنظمة الاستغلال والاستبداد. وقد مكنها تواجدها في الدينامية الاجتماعية من بناء تنظيمات حديدية مستفيدة من نظرية لينين في التنظيم، وغذت بعد ثلاثة عقود من وجودها حركات حاشدة، ومؤثرة في الفعل السياسي.
إن استحواذ تيارات السلفية الرجعية على مواقع الدينامية الاجتماعية والسياسية، مكنها من الانغراس في مختلف الفئات الاجتماعية، وأبعدتها عن ساحة النضال، وتغلغلت في المجتمع بشكل عنقودي، حشد لها التأييد المطلق لمشروعها الرجعي.    
نؤمن بما لا يدع مجالا للشك أن مشروعنا يتعارض كلية مع هذه الحركات، ولو كان حضورها في الحركة الاجتماعية قويا، ومعارضتها للملكية قائما. ولا مجال للي القضيب لجعل الموقف من التعامل معها وسطيا ومعتدلا. ولذلك فإن مشروعا سياسيا ثوريا بديلا لا يمكنه ان يسير الا على النقيض من هذه القوى الرجعية التي تديم علاقات الاستغلال والتبعية وتنشر الجهل عن وعي والفكر الاسطوري والخرافي، وهو ما يجعل حركة المجتمعات نحو التقدم معاقا.
وهذا الموقف العام يستوجب تدقيق بعض القضايا التي لم نراكم حولها اية رؤى تساعدنا على خوض النضال ضد حركات السلفية الرجعية.
ما هي مجالات نضالنا ضد تيارات السلفية الرجعية؟
أي صراع فكري وايديولوجي يمكن ان نخوضه في المجال العام وفي الجامعة تحديدا ضدها؟ ما هي مهام نضالنا داخل الجامعة والمؤسسات التعليمية؟
ما هي محاور بحثنا ومراكمتنا لنضال سياسي ضد توظيف واستغلال الدين؟
كيف يمكن مواجهة المد السلفي الرجعي في قلاعه الشعبية؟
اماكن وقطاعات اشتغال السلفية الرجعية: الفئات المتوسطة، البرجوازية الصغيرة: الموظفين واصحاب الدكاكين، والحرفيين الصغار، البروليتارية الرثة: تشكل القاعدة العريضة والجيش العرمرم لهذه الحركات وأساسا الحرفيين في وضعية هشة: الصباغة، وعاطلي الاحياء الشعبية غير المتمدرسين والنشطين بشكل فعال في القطاع غير المهيكل: الفراشة اساسا، وأصحاب النقانق... هل نستطيع بلورة بدائل لطبيعة الانشطة التي يمارسونها اتجاه هذه الفئات لسحب البساط منهم؟ كيف يمكننا الانغراس في صفوف الفئات التي تستغلها السلفية الرجعية؟
ما هي برامج تكويننا السياسي والذاتيالفردي للتحصين ضد الايديولوجية الدينية؟
كيف يمكن تحصين أنفسنا من تكالب التيارات السلفية الرجعية على مشروعنا المستقبلي؟
-----------------------------------------------------------
يكمن سر نجاح وزحف تيار السلفية الرجعية في العالم العربي بمختلف مكوناته، في انسحاب اليسار من الفعل الاجتماعي، وأزمة المشروع النيوليبرالي الذي لا يستطيع نهج سياسة اجتماعية حقيقية، وإقرار ديمقراطية فعلية.
1 – انسحاب اليسار من المعركة الاجتماعية:
بعد سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي سابقا، انضمت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية (الممثلة في الاشتراكية الاممية) إلى معسكر النيوليبرالية، و سارعت الى تنفيذ السياسات اللاشعبية ضد ملايين الفقراء. ففي جل بلدان العالم شاركت هذه الاحزاب في تدبير أزمة الرأسمالية عبر اقرار سياسات طبقية صارمة أدت إلى المزيد من التفقير، لضمان مصالح البرجوازية العالمية.
وقد أدت مشاركة هذه الاحزاب في تدبير ازمة الرأسمالية العالمية، إلى سحب البساط منها لصالح قوى جديدة صاعدة، وفقدان المناصرين لمشروعها لثقتهم في مصداقية الحلم الاشتراكي الذي عبأتهم عليها منذ عقود من الزمن. وكان ثمن ذلك هو تفكك التنظيمات النقابية والاجتماعية والثقافية التي كانت مدعمة لها.
تزامنت مشاركة الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الحكومات النيوليبرالية بتشرذم وضعف اليسار الراديكالي بفعل التشتت الذي يعاني منه، والتيه الذي اصاب جل مكوناته بفعل انهيار المعسكر الشرقي الذي كان يمثل الاب الروحي والملهم التاريخي.
ولقد أدت هذه العوامل الى انسحاب اليسار بقوتيه الاصلاحية والثورية من حقل الصراع الاجتماعي لصالح قوى سلفية رجعية كانت موجودة بقوة (دون خط سياسي مباشر) في التنظيمات النقابية والاجتماعية... وبالنظر الى الدعم المالي الذي تتلقاه من الخارج وحجم التعبئة التي تمارسها وسائل الاعلام الجديدة "المخونجة"، فإن مشروع هذه الحركات سيجد أقبالا قل نظيره طوال ما يقرب من قرن من الزمن.
2 – أزمة المشروع النيوليبرالي:
شكل هجوم الرأسمالية العالمية بقيادة المؤسسات المالية الدولية على المكتسبات التاريخية في المجال الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، أحد العوامل التي أدت إلى تعميق سيرورة التفقير، والحكم على فئات اجتماعية واسعة بالتقهقر.
شكلت نهاية الثمانينات مناسبة حقيقية للهجوم على الخدمات الاجتماعية وأنظمة الحماية الاجتماعية في معظم بلدان العالم. فالتطبيل للنظام العالمي الجديد، والتبشير بعولمة الرفاهية، لم يكن الغرض منه هو الدفع بسياسات حقيقية لانقاد العالم من الاستغلال والعبودية، وإنما على العكس من ذلك بداية عبودية جديدة وناعمة تحت سلاح الديمقراطية، فتوق الشعوب إلى الحرية بفعل ديكتاتورية الانظمة الاستبدادية والكليانية، كان حافزا داعما للولايات المتحدة الامريكية لتنفيذ سياستها الخارجية التوسعية لإعادة وضع خريطة جديدة للعالم.
مثلت حرب الخليج فرصة سانحة لاعادة اكتشاف منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، بحيث سارعت مجموعة الثمانية الى وضع خريطة جديدة أسمتها ب "مشروع الشرق الاوسط الكبير", وهو المشروع الذي لا يمكن أن يتم تنفيذه دون الاخذ بعين الاعتبار حجم القوى السلفية الرجعية التي تتحكم فيها قوى الخليج (قطر والسعودية)، والتي تخدم على المنظور البعيد مصالح الامبريالية العالمية.
لا يمكن للمشروع النيوليبرالي أن يخدم مصالح الجماهير الشعبية. لذلك فإن ما سينتج عنه من بلترة وتفقير واتساع رقعة المقصيين والمهمشين اجتماعيا، بحاجة الى قوى جديدة لم تفقد بعد ثقتها ولم يلقى مشروعها بعد أي فشل ذريع. وعلى هذا الاساس، تلتقى مصالح الاصوليتين: الأصولية الامبريالية، والأصولية الاسلامية.
سيشكل زواج المتعة بين الاصوليتين تعاقدا بعيد المنظور، ولكنه محدود من وجهة نظر الاشتراكيين الثوريين، لأن الطبيعة الطبقية لكلتا الاصوليتين يتعارضا تماما والمطامح الحقيقية للجماهير الشعبية وكل من يتموقع في دائرة التفقير والتهميش، والتاريخ سيؤكد لهذه الجماهير يوما أن القوى التي تدعمها لن تخدم البتة مصالحها، وإنما تعبر فقط عن مصالح طبقة اجتماعية متدبدبة (الطبقات المتوسطة و وجزء هام من البرجوازية الصغيرة).
الطبيعة الطبقية لقوى السلفية الرجعية:
اذا كان مد هذه الحركة يجد أساسه المادي من فشل مشروع النيوليبرالية وضعف قوى اليسار، فإن هذه القوى ستشكل بالفعل من منظور قسط واسع من النخبة (التي تدور في فلك الليبراليين واليساريين) الفاعل في الحقل الاجتماعي والسياسي. ولقد كان تواجد هذه القوى في ساحة الفعل السياسي والاجتماعي احد العوامل التي ساهمت في ادماج قطاعات واسعة باكملها لمشروعها الرجعي ولبرنامجها الايديولوجي الذي لا يظهر على انه المنقذ من الضلال.
كما مكنها زخمها وتوسعها اليومي من التوغل إلى جل الفئات الاجتماعية، لأن شعار "الاسلام هو الحل"، لا يتعارض أي تعارض مع مصالحها. فالايديولوجية الاسلامية سيف ذو حذين:
       تقر رسميا (بالاستناد على النص القرآني: "وفضلنا بعضكم على بعض في الرزق درجات") بمشروعية التراكم المادي، وبشرعية الاستغلال؛
       تظهر في صورة المنقذ من الضلال، لأن الله لا يحب الاستعباد ويسعى إلى تحرير عبده من قيود الطغاة والمستبدين، ويستندون في ذلك على تاريخ محمد باعتباره مناضلا ضد مجتمع العبودية في ما سماه بتحرير رقبة الرق؛
يصعب بالفعل أن يدرك المريد حدة هذا التناقض الذي تعبر عنه الايديولوجية الاسلامية، لأن هذا المريد يكون مسلحا ببداهات تجعله مطيعا وخانعا ومسلما امره لربه، فهو مجرد عبد لا حول ولا قوة له إلا بإذن الله، ولا يفعل في شيء لأن الله يفعل ما يشاء ويقضي بما شاء.
لا تتناسب الطبيعة الطبقية لحركة ما بطبيعة القوى المتواجدة والفاعلة فيها، لذلك لا يمكن القول أن المشروع البرجوازي للحركات السلفية الرجعية راجع بالضرورة إلى وجود طبقات متوسطة داخلها وتتحكم في دواليبها وتسطر برامجها، لأن ايديولوجية هذه الحركات لا تتعارض مع الايديولوجية البرجوازية فيما يتعلق بشرعنة الاستغلال وقبول الاستعباد. فحتى الحركات الفاشية التي نتجت بفعل أزمة 1929 كانت في جوهرها برجوازية وتخدم مصالح الامبريالية، ولكنها تستند في قاعدتها العريضة على الجماهير الشعبية من الفقراء والمقصيين. وهو حال حركات السلفية الرجعية عندنا اليوم. وإن كان أن وضعنا يختلف جذريا عن وضع أوروبا الرأسمالية.
يبدو بالفعل أن الصلات بين هذه الحركات والقوى الامبريالية مباشرة بشكل فاقع. وسواء كانت خدمتها للامبريالية مباشرة ومتفق عليها أم لا فإن التحليل الملموس يؤكد أن طبيعة هذه القوى لا تتعارض طبقيا مع مطامح البرجوازية المحلية التي لا يمكنها أن تقفز على الامبريالية العالمية، بل إن مصالحها مرتبطة أشد الارتباط بمصالح الامبريالية. وبهذا الصدد يحلل المفكر اللبناني جلبير الاشقر الطبيعة الراسمالية المتطرفة لجماعة الاخوان المسلمين والسلفيين (الملتفين في حزب النور) قائلا: "إن عقيدة الإخوان المسلمين الاقتصادية القائلة بالاقتصاد الحرّ غير المقيَّد بتدخل الدولة هي أكثر انسجاماً مع المذهب النيوليبرالي من واقع الرأسمالية السائدة في ظل مبارك. ويعبِّر عن تلك العقيدة خير تعبير خيرت الشاطر [1]، الرأسمالي الكبير والرجل الثاني في الإخوان بعد المرشد وممثل أكثر أجنحة الجماعة محافظةً، وكذلك حسن مالك، العظيم الثروة والعضو البارز في الإخوان، الذي بدأ حياته في عالم الأعمال شريكاً للشاطر وبات اليوم يدير شبكة من الشركات في مجالات النسيج والأثاث والتجارة يعمل بها أكثر من 400 مستخدم". (-الرأسمالية المتطرفة- للإخوان المسلمين ،جلبير الأشقر، الحوار المتمدن-العدد: 3997 - 2013 / 2 / 8)، ويستند في تحليله على الطبيعة الطبقية لجماعة الاخوان إلى قول سامح البرقي، العضو السابق في الجماعة: "جوهر الرؤية الاقتصادية للإخوان، إذا صنفناهم بطريقة كلاسيكية، هو الرأسمالية القصوى"، (نفس المرجع).
البروليتاريا الرثة: القاعدة الأساس للسلفية الرجعية
تستند حركات السلفية الرجعية في حشدها السياسي والايديولوجي إلى قوى برجوازية صغيرة (الموظفين واصحاب الدكاكين، والحرفيين الصغار...)، نشأت في تنظيمات محكمة وصارمة (خاضعة للتدريب البدني والعقلي معا)، وفئات متوسطة مرتبطة بالبرجوازية الاسلامية الكبيرة. واستطاعت هذه القوى أن تنغرس في صفوف القوى المهمشة والمقهورة أي قوى البروليتارية الرثة التي تشكل القاعدة العريضة والجيش العرمرم لهذه الحركات وأساسا الحرفيين في وضعية هشة: الصباغة، وعاطلي الاحياء الشعبية غير المتمدرسين والنشطين بشكل فعال في القطاع غير المهيكل: الفراشة اساسا، وأصحاب النقانق...
فقوى السلفية الرجعية التي تحمل شعار: "الاسلام هو الحل"، استطاعت الانغراس في صفوف هذه القوى الرثة بفضل تشجيعها على بناء مشاريع صغيرة جدا تضمن لها على الاقل بقائها اليومي، وفي أغلب الحالات عادة ما تكون هذه المشاريع ممولة من طرف الجماعات ذاتها مع استخلاص ضريبة لصالح الممول. وهذا طبيعي جدا بالنظر الى التحولات الجارية في مجتمعات العالم الثالث حيث الثروة موزعة بين الامبريالية العالمية، واللوبيات المحلية التي تشكل عصب انظمة الاستبداد.
--------------------------------------------------------------------------------
اليسار المغربي وقوى السلفية الرجعية:
لا شك أن النظام السياسي بالمغرب يتحمل مسؤوليته اتجاه انتشار حركات السلفية الرجعية، فهو يدرك جيدا الدور الايديولوجي الذي يمكن ان تلعبه هذه القوى لمواجهة المد اليساري في السبعينيات.
شهد المغرب حدثين رئيسين في النصف الثاني من القرن العشرين، كادا أن يجهزا على الملكية: يتمثل الأول في انتفاضة 1965، التي ساهمت في تسييس قطاعات واسعة من الشبيبة التي كانت مرتبطة باليسار الاشتراكي آنذاك، وهو التسييس الذي حفز القوى الثورية الى بناء المنظمات الثورية الثلاثة (23 مارس، لنخدم الشعب، الى الأمام). وما رافق نمو اليسار هذا من جيوب مقاومة كان موقفها من المؤسسة الملكية واضحا، وهي سليلة الحركة الوطنية، وكان اختيارها للكفاح المسلح أمرا بديهيا لا يقبل النقاش أو التنازل. وهي الجيوب التي وضعت لها الملكية حدا في السبعينيات.
ويتمثل الثاني في الانقلاب العسكري الأول والثاني. والذي استغلت الملكية فشلهما للسيطرة على الوضع السياسي في مجمله، وهو الفشل الذي سرع وبرر وثيرة الهجوم المباشر على المنظمات الثورية وعلى النضال الاجتماعي والسياسي. وفي سبيل ذلك عمل النظام على احتواء القوى الاصلاحية (الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) وتشجيع عمل التيارات السلفية الرجعية في المغرب، واساسا الشبيبة الاسلامية ومن يحوم حولها من قوى تحضر اليوم في المجتمع المغربي بقوة.
رسم النظام السياسي لتلك القوى السلفية الرجعية سقفا مدروسا لاستعمالها في قمعهلليسار. وهو يعي جيدا أنها مدعوم من حلفاءه في الخليج ولا يجد حرجا في التعاون المطلق معها (السعودية تحديدا). فما دامت تلك القوى ستقف امام تطور اليسار، فلا حرج في دعمها غير المباشر، عبر تشجيعها في اكتساح الشبيبة المتمدرسة، وأطر القطاعات الاجتماعية.
بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود، ستظهر هذه القوى في ثلاثة توجهات رئيسة:
التوجه المهادن: والذي يمثله حزب العدالة والتنمية، والذي يضم خليطا من الاسلاميين، ولكن عمودها الايديولوجي الذي لعب ادوارا ضد اليسار لا يزال صلبا وقويا في توجيه الحركة وتقوية خطابها الايديولوجي الى اليوم (نقصد حركة التوحيد والاصلاح التي تملك بشكل كامل كل منظمة التجديد الطلابي).
التوجه السلفي: والذي تمثله مختلف تيارات السلفية الجهادية وغير الجهادية، التي اختارت الاصطفاف علنا ومباشرة الى جانب الملكية وتبرر مشروعيتها السياسية والدينية، والتي اختارت الادوات الكلاسيكية وتستمر في اغراق المجتمع بالفكر الخرافي وبمشروع بادئ.
التوجه الصوفي السياسي: والذي تمثله جماعة العدل والاحسان، والتي استطاعت منذ نهاية السبعينيات غزو المجتمع وأساسا الشبيبة المدرسية، والتي يمكن اعتبارها اليوم أشد تنظيمات الاسلام السياسي ايديولوجيا (خلف لها الشيخ عبد السلام ما يكفي لتحصين نفسها من ايديولوجيا الشرق)، وأكثرها قوة بفضل تنظيمها الصارم الذي صقلته طوال أربعة عقود. وهي تضع نفسها اليوم في مواجهة الملكية في الخطاب، دون أن تكون لها ممارسة سياسية في الشوارع مباشرة، ولكنها لا تزال تشحذ تأييد قطاعات واسعة من المجتمع بفضل قواها وصرامتها التنظيمية ومرونتها في التعامل مع المؤيدين والانصار، إلى جانب تغلغلها في القاعدة الاجتماعية بفضل مشاريعها الخيرية وأساليب تضامنها الواسعة.
ان تتبع تطور هذه القوى يؤكد استحالة وجود اتحادات وتحالفات سياسية ممكنة بينها. بالنظر الى اختلاف مساراتها الواحدة عن الاخرى، ناهيك عن ارتباطات جزء كبير منها بقوى المخزن. ولكن على العمومي يستبعد نشوء حرب بينها حتى على مستوى الكلام، فلا تزال العدل والاحسان تخاطب سنويا العدالة والتنمية وكل القوى السلفية الاخرى باسلوب الوعظ والارشاد ومن باب النصيحة. ففي رسالة مجلس الارشاد الاخيرة الى هذا الحزب الحاكم تم استعمال نفس الاسلوب ولكن هذه المرة بابوية صارمة وكأن موقف الجماعة لا يتبدل ولا يتغير اتجاه هذا الحزب واختياراته في الدخول الى المؤسسات المخزنية، ولكنها بالطبع تحافظ على صفاء ونقاء وجهها وسمعتها امام حركة التوحيد والاصلاح والقاعدة الانتخابية التي تستند عليها العدالة والتنمية. وتؤكد كما العادة على عدم قبولها للعبة السياسية المخزنية وعلى تشبثها بخيار تموقعها خارج المؤسسات، ولكنها ولأول مرة تعلن ترحيبها بالوضع القانوني للجماعة واختيار اسلوب العمل السياسي العلني دون التنازل عن مبادئها اتجاه الحكم واسلوبه.
كان موقف اليسار المغربي متباينا دوما اتجاه هذه القوى، بين من يعتبرها قوى ظلامية، فاشية، لا تخدم إلا مصالح النظام السياسي الذي رودها واستعملها ما من مرة لكسر شوكة اليسار، وبين من يعتبرها تعبيرات عن قطاع واسع من المجتمع يلزم التعامل معها وفق ضوابط. إلا أن اسلوب العمل المشترك بين قوى اليسار وتيارات السلفية الرجعية لم يدشن بشكل علني وصريح إلا في الآونة الأخيرة، وخاصة مع هبة عشرين فبراير.
وبعد ان استطاع النظام الالتفاف على مطالب الحركة ومواجهة المناضلين الكفاحيين بالقمع الشديد. وبفضل التحولات التي تقع في المنطقة بدأ سؤال قوى السلفية الرجعية مطروحا بحدة اليوم في صفوف اليسار.
حزب التقدم والاشتراكي: والتأسيس للتطبيع السياسي
بدأ هذا الحزب (الذي سيطر عليه اليوم عملاء المخزن) يشرعن لاسلوب المصالحة والتعامل مع حزب العدالة والتنمية، وصحيح أن الموقف السياسيلهذا الحزب لم يتبلور بشكل قطعي الا في الانتخابات الاخيرة، لكي يجد موطئ قدم في التسيير الحكومي، بعد أزمة الاتحاد الاشتراكي وموقف الاستقلال. وهو اختيار انتهازي يستجيب لتطلعات التوجه البرلماني في هذا الحزب. ومما لا شك فيه أن مصير هذا الحزب ككل قاب قوسين أو أدنى. ولتبرير ذلك سخر ابن المناضل التاريخي (عزيز بلال) يوسف بلال للترويج لموقف الحزب من الاسلاميين.
الاتحاد الاشتراكي:
كان الهجوم الذي تعرضت له الجامعة الربيعية لهذا الحزب في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ربيع 1996، فرصة سانحة لكي يلين هذا الحزب موقف من قوى السلفية الرجعية. وإن كان لا يدعو الى ضرورة التعامل معها أو ايجاد صيغ للتحالف السياسي، فإنه في نفس الوقت لا يختار اسلوب المواجهة لفضح طبيعة هذه القوى وبيان تهافت برنامجها الايديولوجي واهدافها الاستراتيجية، لأنها أصلا لا تمتلك برنامجا سياسيا للحكم.
تحالف اليسار الاشتراكي:
يتأرجح موقف هذا التحالف بحسب مكوناته الثلاثة، ولكنها على العمومي لا تلغي امكانية التعامل مع قوى السلفية الرجعية، وعلى الاخص العدل والاحسان التي تتواجد بقوة في نفس منظمات النضال التي يسيطر عليها هذا التحالف: الكدش، نقابة التعليم العالي، لجنة دعم فلسطين... وبشكل فاقع 20 فبراير. وهذا طبيعي جدا إذا استحضرنا أن أغلب قوى هذا التحالف تتمثل في بقايا الحركة الاتحادية. صحيح ان التحالف لا يرفض التعامل مع هذه القوى ولكن لم يعلن رسميا أي امكانية للدفع بالتحالف مع هذه القوى او الاتفاق معها على اهداف سياسية استراتيجية، ببساطة لأنها تعتقد ان هذه القوى ستكون دوما في خدمتها ما دام جزء منها يغطي عليه سياسيا كمظلة في المنظمات الجماهيرية (الكدش، التعليم العالي، المسيرات التضامنية مع فلسطين...)، ولذلك فالتحالف يراهن على العدل والاحسان لاستعمالها كفزاعة في وجه النظام، وهي لعبة لن تدوم طويلا حينما تقرر الجماعة الخروج الى العمل الشرعي والسياسي المباشر. إلا أنه رغم ذلك يمكن استثناء عشرات المناضلين الذين يدعون الى عدم التعامل مطلقا مع هذه الجماعة الفاشية، ولكنها كتلة لا تعني شيئا في القرارات السياسية حتى بالاشكال الديمقراطية (التصويت). وهي من النقط التي يمكن ان تشكل راس النقاش في تأسيس الفيدرالية.
النهج الديمقراطي:
يبدو موقف النهج الديمقراطي منذ تجربة الكراس ضبابيا، وغير مؤسس لا فكريا ولا ايديولوجيا، ولكنه ينبني على رهانات سياسية خاطئة بالجملة. ولقد شكلت محطة 20 فبراير تجسيدا عمليا لتنسيق حقيقي وفعلي بين الجماعة وحزب النهج، وإن كان ان هذا الزواج غير الشرعي لم يدم طويلا بعد ان قررت الجماعة الانسحاب من الحركة.
يبدو جليا أن موقف النهج متناقض، حيث يعتبر ان كل حركات السلفية الرجعية تحمل فكرا ماضويا وغارقا في الرجعية، وسلوكا عنيفا يتنافى مع منظومة حقوق الانسان، وتدين أكثر من مرة الاحداث المنتهكة للحق في الحياة أو أعمال العنف التي تعلن باسم أي تنظيم سلفي رجعي. وفي الآن ذاته تعتبر ان هذه الحركات تعبر عن تطلعات فئات اجتماعية واسعة ذهبت ضحية التضليل الايديولوجي لهذه الجماعات. لذا يتوجب على قوى اليسار من هذا المنطلق النضال فكريا من اجل محاربة هذا التضليل، ولتسيس تلك الفئات لمواجهة الملكية في ما يشبه لاهوت التحرير بأمريكا اللاثينية. وإذا اعطى التنسيق الميداني بين النهج والجماعة ثمارا كبرى لهذا الحزب على مستوى الاشعاع فإن موقفها الاخير بعد الاعلان رسميا عن مشروع الجبهة الشعبية يذهب عكس التيار، أي نحو تبرير وصياغة تحالف سياسي ميداني مع الجماعة للاتفاق على برامج عمل استراتيجية، في توليفة غريبة لتبريرات واهية سنشير اليها لاحقا.
يشدد منظرو هذا الحزب وزعماؤه الرئيسيين على امكانية الدخول في تحالف شعبي واسع للنضال ضد الملكية ولتجنيب المغرب نفس مسارات مصر وتونس. كيف ذلك؟
بغض النظر عن تصريحات الحريف والبراهمة حول الموضوع لدينا هذه المرة وثيقة مكتوبة ومنشورة رسميا من طرف أحد مؤسس حزب النهج الديمقراطي (علي فقير) والتي يبرر فيها امكانية التعامل مع قوى السلفية الرجعية ميدانيا لتوسيع قاعدة المعارضة السياسية للمخزن، ويبين فيه حتى الكيفيات والادوات التي يقترحها للوصول الى هذا "الحوار الممكن!" بين الاسلاميين واليسار بالمغرب.
نشر علي فقير مقاله الاخير بعنوان: المغرب: لنتجاوز الخوف، الحوار ممكن! يوم 29 يوليوز 2013.والذي يحمل هاجس الخوف مما يجري في مصر وفي تونس، ويعلن فيه أن "الديمقراطية لا يمكنها أن "تلفظ الاسلاميين في البحر"، وكذلك لا يمكن للإسلاميين أن يوقفوا مسيرة التاريخ. فالإنسانية تتقدم."،فيما يشبه توفيقية ملفقة. فصحيح ان الديمقراطية لا يجب ان تلفظ الاسلاميين ولكن عن أي اسلاميين تتحدث ايها الرفيق؟ إن في استعمالك لصيغة "الاسلاميين" هذه دون توضيح، يحمل تمويها على رفاقك. اليسار لا يرفض المتدين كما لا يرفض عير المتدين، لأن مشروعه الاشتراكي ودفاعه عن الديمقراطية المباشرة في صالح كل مواطني المجتمع. أليس المغاربة مسلمون؟ لقد فرض الاسلام على المغاربة في مسيرة تاريخية طويلة، ولكن المغاربة ليسوا بالضرورة مسلمون: هناك ايضا اليهود والمسيح وغير المتدينين وهناك من يمارس اسلاما شعبيا (بلغة بول باسكون) لا علاقة له بالإسلام كما جاء في القرآن والسنة (وهم غالبية المغاربة)، وإذا كنت تقصد هؤلاء المسلمون الذين لم يسيسوا يوما دينهم فان في ذلك حديثا اخر. ولكن يا رفيقي تستعمل صيغة الاسلاميين للإشارة الى أنصار واعضاء حركات السلفية الرجعية التي توظف الدين لأغراض سياسية محضة. لأن تأويل هؤلاء للدين الاسلامي يتنافى مع قيم حقوق الانسان واساليب العيش المشترك التي ظل اليسار يدافع عنها طوال حياته. كما يرفضون أي قيم تؤمن بالاختلاف وبالحق في التنوع... لذلك فإن جل التيارات التي يسميها الرفيق علي بالاسلاميين هم متورطون في اعمال عنف ضد اليساريين. وجلهم يدافعون عن مشروع ايديولوجي بائد لا يمكنه أن يحقق الكرامة والحرية والعدالة المنشودة. ونحن كتقدميين وكيساريين نرفض هذا المشروع جملة وتفصيلا لأنه:
       مشروع يشرعن للعنف بكل الوسائل والطرق معتبرا اياه أداة للتنشئة ولتطويع النساء والاطفال وكل افراد المجتمع؛
       مشروع يشرعن التفاوت الطبقي ويكرس اللامساواة الاجتماعية ويدافع عنها بمبررات دينية محضة (وفضلنا بعضكم على بعض في الرزق درجات)؛
       يدعو الى الاستكانة والمهادنة والصبر على الظلم الاجتماعي والسياسي... وهو بذلك يستغل الدين كمخدر؛
       يدعو الى ابادة اليهود وكل المخالفين والمغايرين وهم بذلك حركات فاشية اذا اتيحت لهم فرصة الحكم بقوة سيفعلون ما يشاؤون؛
       لا يؤمن الاسلاميون بأي قيم انسانية كونية ولا صلة لهم باسس التعايش والعيش المشترك، بل يذهبون الى تأويل مكتسبات العصر الحديث وفق تصورهم إعادة شرعنة أفكارهم الايديولوجية، ويتحدثون عن حقوق انسان اسلامية وحقوق المرأة المسلمة، وحقوق الطفل المسلم، والعلوم الاسلامية... لقد حرفوا كل ما وصل اليه الغرب وفق ما يخدم مبادئ الدين الاسلامي، أهناك من تخلف اكثر من هذا؛
       يتعارض هذا المشروع مع قيم التقدم الانساني، لأن مشروعهم رجعي بالدرجة الاولى؛
       لن يخدم مشروعهم هذا الا البرجوازيات المحلية والامبريالية العالمية في نهاية المطاف؛ 
ويطرح الرفيق علي سؤال: ما العمل؟ ليحاول الادلاء بمقاربته وليعلن امكانية الحوار مع الاسلاميين. ويبرر هذه الامكانية بالقول: " كل الاحزاب تدرك ان ميزان القوى الحالي لا يسمح لأحدها بفرض رؤيتها الهيمنية على المجتمع". ما هي هذه الاحزاب ايها الرفيق؟ هل هي الاحزاب اليسارية أم كل الاحزاب السياسية؟ لا يهم حتى من هي هذه الاحزاب. ولكن في كلامك قليل من الحكمة، وإذا كانت كل الاحزاب تدرك ذلك فعليها بالاحرى ان تعلن نهايتها. عليها ان تقر بأن الاشكال التقليدية لممارسة السياسية لم تعد صالحة لتبحث عن ادوات جديدة، ناهيك عن كون معظم هذه الاحزاب التي اشرت اليها متورطة في علاقات مع السلطة السياسية او هي احزاب ضعيفة للغاية لا ترقى حتى الى مستوى خدمة الاستبداد ويلفظها لأنها ضعيفة.
أما عن الصيغة التي يقترحها الرفيق علي لبناء جبهة ميدانية ضد المخزن فنستخلصها من كلامه: "ما الذي يتوجب القيام به لبناء (على الاقل في الميدان) جبهة ضد المخزن؟
الانخراط في النقاش العمومي (أرفض واستبعد المفاوضات السرية بين القوى السياسية)، نقاش بناء، نقاش تستطيع متابعته فئات اجتماعية واسعة.
وسيفتح هذا النقاش حول:
الجانب الاقتصادي والاجتماعي: تقوية القطاعات الاجتماعية. التأميم الاقتصادي وحده كفيل بالاستجابة لحاجيات الجماهير الشعبية، وطلب التشغيل...
الحريات الفردية: الحوار حول نظام "ذات قدمين" (un système "bipède")، قدم ديني (إسلامي، يهودي...)، وقدم علماني، وللمواطنين حرية الاختيار. وهذا النوع من الحل تم اكتشافه من طرف الاوروبيين. ففي فرنسا مثلا يمكن الزواج في الكنيسة أو في قاعة الحفلات... ولا تطرح مطلقا هذه الازدواجية اية مشاكل.
لا يمكننا الاتفاق ابدا حول حقوق المرأة (كمشكلة الارث، تعدد الزوجات...)، ولا أحد ، أقول عن وعي لا أحد، مستعد للتنازل عن مواقفه. فالشريعة التي صيغة منذ 15 قرن لا توافق واقع القرن 21. يجب ان نناقش دون المساس في هذه اللحظة بالثوابت. ولكن يجب الانطلاق من مبدأ أن لا أحد من الاحزاب له الحق في فرض مرجعيته على الآخر (ولا يمكنه باي طريقة ما). وسيكون المخزن الوحيد القادر على الاستفادة إذا لم نكن واقعيين، إذا لم نكن مرنين في علاقاتنا... لأن الجماهير لن تثق في أي معارضة.
هل الحوار ممكن بين قوى المعارضة الحقيقية؟
أقول نعم دون أي تردد. ولكن يجب ان يكون هذا الحوار علنيا دون ان يخضع لأي مفاوضات سرية. وشخصيا، شاركت في انشطة وجدت فيها نفسي مع جماعة العدل والاحسان وحزب العدالة والتنمية، وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والحزب  الاشتراكي الموحد، وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي...
من بإمكانه أخذ المبادرة؟
إننا نرحب بكل المبادرات البعيدة عن المخزن.". انتهى كلام الرفيق علي.
لنمعن جيدا فيما يصرح به الراعي الذي تحول الى شيوعي، فهو يقترح صيغة حوار عمومي غير مبني على كولسة او مشاورات سرية بين المعنيين. ويقترح ان ينظم هذا اللقاء أي جهة: صحافة جمعية، مفكر... شريطة ان تكون بعيدة عن المخزن.
ويرى الرفيق ان الحوار يشمل الجانب الاقتصادي وجانب الحريات الفردية، وكأن الجوانب الاخرى لا اهمية لها في حقل التدبير السياسي للشأن العام. فهل هذا يعني ان الثقافة والفكر والمسألة الاجتماعية وانظمة التقاعد والحماية الاجتماعية والصحة والتعليم لا تهم الرفيق علي.
لنركز أكثر على ما يقول: "الحوار حول نظام ذات قدمين."، هل يدرك الرفيق جيدا ما يقول؟ أليس هذا تنازلا حقيقيا عن المكتسبات التاريخية التي حققها اليسار بفضل تضحياته، وهل بهذه السرعة يتنازل الرفيق عما ناضل من أجل وربى عليه أجيالا وأجيال؟
كيف تتصور تعايش نظام بائد ويتنافى مع أسس التقدم البشري، وبين نظام معاصر يستجيب لمقتضيات العيش المشترك المبني على الاختلاف والتعدد والاحترام والتدبير المعقلن للشأن العام؟ هل تعتقد انهم سيحترمون الاخر؟ إنه آخر ما يفكر فيه هؤلاء؟ ألم تريك تونس ومصر ماذا يعني الاسلام بالنسبة لهؤلاء؟ 
ما هو سياق دعوة النهج الديمقراطي الى جبهة شعبية ضد المخزن تضم الاسلاميين؟ وما الذي يبرر مثل هذا المقال في هذا الظرف بالذات؟
يأتي موقف النهج هذا في فترة الاحساس بالضعف والوهن الذي اصاب القوى اليسارية وخاصة تلك المرتبط بالمد الستاليني في العالم أو باليسار الجديد في اوروبا.
أكيد جدا أن النهج الديمقراطي يعي ما يقول ولهم كامل الحق في ذلك. ولكن الرهانات السياسية قد تكون خاطئة. وهذا هو جوهر ما يهمنا هنا. لقد كانت الفرصة سانحة لتبادل الدعوات بينه وبين العدل والاحسان. فالجماعة هي ايضا تدعو إلى حوار وطني امام الملأ للتعاقد سياسيا والالتزام بخدمة المجتمع. ذلك أن هذه الجماعة خرجت من حركة 20 فبراير وهي تدرك جيدا خفوت تأثيرها وحدودها السياسية، ولا تستطيع أن تذهب وحيدة في مشروعها. أما نداء النهج فما هو الا استجابة لنداء الجماعة، بل انه مجرد استجداء بعد ان تخلف عن ركب رفاق طريق الدرب التاريخيين: أقصد مشروع فيدرالية اليسار وقبلها التحالف.
تيار المناضلة:
لا يملك هذا التيار موقفا صريحا وواضحا من قوى السلفية الرجعية، أقصد موقفا سياسيا. وقد أثار نداء التعامل مع العدل والاحسان الذي أطلقه هذا التيار سنة 2011 في عز هبة 20 فبراير، ردود فعل قوية لدى معظم مناضليه، لأنه موقف:
       غير مؤسس وغير مبرر؛
       جاء في ظرفية سياسية ليست بحاجة إلى مثل هذا الموقف المتسرع؛
       جاء فوقيا كما العادة حيث الجريدة هي التي تأخذ كل المواقف دون أي نقاش مسبق ولا تخضع للتداول والمناقشة في البنيات المحلية؛
       وحتى في الحالة التي تم فيها طرح النقاش على الرفاق في المناضلة، تم اتهام المناضلين الذين طرحوا بالعمالة للمخزن والوقوف ضد التيار.
التيارات المنحدرة من تجربة النهج الديمقراطي القاعدي:
والتي ورثت جميعها الموقف الطلابي السائد في الحركة الطلابية منذ السبعينيات، والذي يعتبر أن هذه القوى هي قوى ظلامية في خدمة مصالح الطبقة السائدة. ولا مجال للتعامل معها او الالتقاء معها، بل يتوجب دوما محاربها ومواجهتها بالعنف.
أي موقف لليسارفي وجه حركات السلفية الرجعية؟
عادة ما يتخذ موقف اليسار من قوى السلفية الرجعية شكلا اخلاقيا يتم تبريره بكون هذه الجماعات قد ارتكبت جرائم في حق اليسار، والبعض من مناضلي هذا اليسار لا يزال يعيش أثرا نفسيا وماديا من العنف الممارس عليه. وهو موقف مبرر ويحترم الذين ضحوا بحياتهم في سبيل مبادئهم التقدمية واليسارية. إلا أنه غير كاف.
كما أن الهبة التي لعبت فيه هذه الحركات ادوارا طليعية زحزحة اليسار من مكانه وأبانت عن قوته وحجمه في المعادلة السياسية. مما دفع بأغلبهم الى الاعتراف بهذه القوى والدعوة الى التعامل معها.
إن موقف مقاطعة هذه الحركات وعدم التسامح مع قواها في الدخول الى المنظمات التقدمية والديمقراطية، ووقف التعاون معها هو الموقف السليم اليوم وغذا وابدا. لأن عدم تقديم هذه الجماعات للنقد واعلانها المباشر عن مناهضتها للاستبداد والتنازل عن مشروعها الايديولوجي الرجعي الهدام، لن يفيد في شيء.
وإيمانا منا بما يمكن ان يمثله مشروع هذه الحركات من نكسة حقيقية وتراجعا عما اكتسبته الشعوب المضطهدة في نضالها طوال عقود، فلا يمكننا إلا ان نعلن الصراع الايديولوجي والسياسي ضد هذه الحركات في كل الاوقات والاماكن والتحركات. فطريقهم ليس طريقنا ولن نقتسم معهم أي طريق.