6:08 م

العالم العربي والوضع الجديد



يتميز الوضع في العالم العربي ببداية نشوء مد ثوري عام وصل أوجه في تونس ومصر، حيث تمت الإطاحة لأول مرة براس النظام بواسطة انتفاضة شعبية. ويأخذ هذا المد الثوري في بلدان أخرى شكل احتجاجات شعبية (اليمن وسوريا) قد تتطور إلى انتفاضات شعبية.
أما في ليبيا فقد تطورت الانتفاضة الشعبية إلى مقاومة شعبية مسلحة ضد النظام. وفي بلدان أخرى (المغرب، الجزائر، الأردن) تتطور الاحتجاجات بوثيرة اقل، في حين سيتم إخماد الاحتجاجات الشعبية في البحرين على يد جيوش الأنظمة الخليجية الرجعية العميلة للامبريالية. وفي عمان سيتم احتواء الاحتجاجات بواسطة تنازلات اجتماعية من قبل النظام. أما في العراق فتصطدم الحركة الاحتجاجية بوضع استثنائي،مرتبط بالاحتلال من جهة وبسيطرة الأحزاب الطائفية من جهة أخرى. فالاحتجاجات لازالت على ما يبدو في حدود الطائفة السنية،بينما الطائفة الشيعية لازال قسمها الأكبر خاضعا لتأثير الأحزاب الشيعية الموالية للحكومة. ونفس الوضع في إقليم كردستان حيث لازال التحالف الكردي الحاكم مهيمنا على الحركة القومية الكردية.أما الوضع في دول الخليج فلازالت الاحتجاجات في طور المخاض.

من خلال هذا الرصد يمكننا القول بان العالم العربي قد دخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار،حيث تتغذى حالة المد والجزر من بعضهما، ومن شان تقدم الحركة الاحتجاجية في اليمن وسوريا أن يغذي الحركة في بلدان أخرى، كما أن المسار الذي سيأخذه الوضع في ليبيا من شانه أن يؤثر إيجابا أو سلبا على الوضع في شمال إفريقيا. نحن ادن أمام مرحلة طويلة ستتخللها حالات مد وجزر مرتبطة بالوضع الإقليمي لكن أيضا بالوضع العالمي.

نظرية الصراع الطبقي
لم يعايش جيلنا أي ثورة قبل الثورة التونسية والمصرية، والتصور الذي حمله حول الثورة مستوحى من النصوص التي كتبت عن الثورات الماضية. ولما اندلعت الثورة التونسية والمصرية وجد جيلنا صعوبة كبيرة في فهم هذه الثورات ومساراتها وتناقضاتها، لكونهما تقدمان نموذجا غير مطابق للصورة التي كونها جيلنا عن الثورة انطلاقا من استنتاجاته وقراءاته لثورات القرن الماضي. يستدعي هذا من الثوريين، خاصة الماركسيون منهم، تحليل دينامية هاتين الثورتين وتناقضاتهما من اجل إعادة تسليح الجيل الثوري الجديد برؤية ثورية وسياسة طبقية (مطالب، شعارات، تحالفات،إستراتيجية ثورية) ومساعدة الكتلة الشعبية على التمييز بين مختلف المشاريع السياسية.
هذا ما قام به كارل ماركس إبان المد الثوري الذي اجتاح أوربا في 1848("الصراع الطبقي في فرنسا والثامن عشر من برومير لويس بونابرت" ) وهذا ما قام به ليون تروتسكي إبان المد الثوري الذي اجتاح روسيا في 1905 (نتائج وتوقعات) و هو ما قام به فلاديمير ايليتش لينين خلال المد الثوري في روسيا في فبراير 1917 (أطروحات ابريل) وقام به ماو تسيتونغ  إبان موجة المد الثوري في الصين خلال الثلاثينات من القرن الماضي.
 لم يكن بوسع هؤلاء فهم تلك اللحظات الثورية الجديدة في عصرهم وإدراك مساراتها الموضوعية وتناقضاتها لواكتفوا بخلاصات ودروس الثورات الماضية. كما لم يكن بوسعهم رسم سياسة صائبة للقوى الثورية في تلك اللحظات المتقلبة. فقد شكلت أطروحات ماركس في 1848 تجاوزا(بالمعنى الايجابي للكلمة) لأطروحات البيان الشيوعي، كما شكلت أطروحات تروتسكي قطيعة مع أطروحات الثوريين الروس التي كانت متأثرة بأطروحات الاشتراكيين الديمقراطيين الالمان، وشكلت أطروحات لينين تجاوزا لأطروحتان البلاشفة القدامى، كما شكلت أطروحات ماو قطيعة مع أطروحات الحزب الشيوعي الصيني ابان التحالف مع حزب البرجوازية الوطنية (الكيومنتانغ) في منتصف عشرينيات القرن الماضي و التي تسببت في هزيمة الثورة أنداك بعد ارتداد حزب البرجوازية على حليفه الشيوعي.
من اجل فهم ما يجري في العالم العربي
من اجل تكوين صورة عن الأحداث السياسية الجارية في العالم العربي ،لابد من البحث عن أسبابها الاقتصادية، وان كانت العلاقة السببية،بين الصراعات السياسية والمصالح الاقتصادية لا تبدو واضحة كفاية في الظرف الراهن. ففقط من خلال هذه الرؤية المادية، يمكن تسليط الضوء على مصالح مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية (القاعدة المادية) لفهم تحركات مختلف القوى السياسية باعتبارها تشكل تعبيرا عن مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية.
وقد قمنا بتطبيق هذه المنهجية على المسلسل الثوري الجاري في العالم العربي في محاولة (غير مكتملة طبعا) لفهم مسار هذا المسلسل وتناقضاته.
سنستعير من كارل ماركس منهجيته المادية التي بلور خطوطها الكبرى عقب اندلاع ثورة 1848 التي عمت كل أنحاء أوربا. لا يعني هذا أن الأحداث الراهنة هي مجرد تكرار لأحداث الماضي، بل يعني أن فهم وتفسير أحداث التاريخ، الماضية منها والراهنة، غير ممكن دون نظرية الصراع الطبقي. هذه النظرية التي صاغ كارل ماركس عناصرها الأساسية في 1848 لا زالت في نظرنا، تحتفظ بكل راهنيتها كمنهجية لتفسير أحداث التاريخ الحديث.
 الفقرة الأولى :"إن جميع الثورات السابقة (أي الثورات السابقة للثورة الاشتراكية) كانت تقتصر على إحلال سيادة طبقة معينة محل سيادة طبقة أخرى؛ ولكن جميع الطبقات التي سادت حتى الآن(أي قبل ثورة 1848 ) لم تكن تشكل غير أقلية ضئيلة بالقياس إلى سواد الشعب المحكوم.  كانت أقلية سائدة تسقط، وتحل أقلية أخرى محلها في دست الحكم وتغير نظم الدولة وفقًا لمصالحها. وفي كل مرة، كانت السيادة تعود إلى ذلك الفريق من الأقلية الذي كان، في ظل الحالة المعنية من التطور الاقتصادي، قادرًا على السيادة ومدعوًا إلى السيادة"(كارل ماركس: الصراع الطبقي في فرنسا)
الفقرة الثانية " إذا ما طرحنا جانبًا المضمون الملموس لكل حالة بمفردها، فإن الشكل العام لجميع هذه الثورات قد تلخص في كونها ثورات الأقلية. وإذا كانت الأغلبية قد اشتركت فيها أيضا، فإنها لم تفعل ذلك – عن وعي أو عن غير وعي – إلا في مصلحة الأقلية. وهذا على وجه الضبط (....) هو الذي جعل هذه الأقلية تبدو كأنها تمثل الشعب بأسره".
الفقرة الثالثة: "عندما انفجرت ثورة شباط(الثورة الأوربية في 1848) كنا نحن جميعنا متأثرين في تصوراتنا حول شروط الحركات الثورية وظروفها وسيرها بالخبرة التاريخية الماضية(......) وعندما بلغت الأمور إلى حد أن انتصار الطبقة البرجوازية ذاته هز البرجوازية في جميع البلدان إلى درجة أنها ارتمت من جديد في أحضان الرجعية الملكية الإقطاعية التي كانت قد أسقطت للتو، - لم يكن من الممكن في ظروف ذلك الوقت أن يخالجنا أي شك في أن المعركة الفاصلة الكبرى قد بدأت وأنه يجب السير بها إلى النهاية في سياق مرحلة ثورية طويلة وحافلة بالتقلبات، وأنه لا يمكن مع ذلك لهذه المعركة أن تنتهي إلا بانتصار البروليتاريا النهائي".
الفقرة الرابعة: "بعد هزائم 1849، لم نشاطر إطلاقًا أوهام الديمقراطية المبتذلة الملتفة حول حكومات المستقبل المؤقتة. فقد كانت هذه الديمقراطية تأمل بانتصار عاجل ونهائي يحرزه "الشعب" على "الطغاة"، أما نحن، فإننا كنا نأمل بنضال مديد، بعد إزالة "الطغاة"، بين العناصر المتضادة الكامنة في هذا "الشعب" ذاته".
ثورة اجتماعية أم انقلاب شعبي؟
بتطبيقنا لمنهجية كارل ماركس على الأحداث الجارية في العالم العربي نستنتج الخلاصات التالية:
1- ان ما حدث في تونس ومصر، على الأقل إلى حدود الآن(وما يجري في باقي بلدان العالم العربي) هو "انقلاب شعبي عام"( تمييزا عن الانقلابات الفردية والعسكرية) على الأقلية الحاكمة لم يترتب عنه حلول سيادة الطبقات الشعبية(العمال والجماهير الشعبية الكادحة) محل سيادة الطبقة الرأسمالية، بل سقوط أقلية برجوازية حاكمة حلت محلها أقلية أخرى على راس الحكم.
2 - إن المشاركة الشعبية الواسعة في الانقلاب العام وفي الاحتجاجات السابقة له، مؤشر على الوعي الشعبي بضرورة الإطاحة بالأقلية الحاكمة، لكن غياب او ضعف الوعي الاجتماعي بضرورة تحويل هذا الانقلاب الشعبي إلى ثورة اجتماعية للإطاحة بسيادة البرجوازية كطبقة، يجعل هذه المشاركة الشعبية لصالح الأقلية .
3 – سواء في تونس أو مصر، لم يعرف المسلسل الثوري مشاركة أقسام من البرجوازية السائدة في الانقلاب العام على النظام، بل شكلت البرجوازي، منذ بداية الاحتجاجات الشعبية قوة طبقية ملتفة حول النظام ومعادية للانقلاب الشعبي.
4 – مباشرة بعد انتصار"الشعب" على "الطغاة" ستبرز تناقضاته الداخلية، و ستنفجر"وحدة الشعب" وسيحل محل الوحدة صراع بين قوى سياسية واجتماعية سترتمي  في أحضان النظام القديم لإجهاض تطور الانقلاب الشعبي إلى ثورة اجتماعية، وقوى سياسية واجتماعية تواصل النضال من اجل تفكيك كلي للنظام القديم كشرط لتطور الانقلاب الشعبي إلى ثورة اجتماعية.
5 – نحن ادن في سياق مرحلة ثورية طويلة، قد تتخللها حالات مد وجزر قبل الوصول إلى المعركة الكبرى الحاسمة في هذا المسلسل الثوري، معركة الصراع حول السيادة بين الطبقات الشعبية والطبقة الرأسمالية.
 6 - إن تعبئة الجماهير الشعبية للمشاركة الواسعة في الانقلاب العام على السلطة الاستبدادية كهدف مباشر،لا يجب أن ينفصل عن مهمة تحويل الانقلاب الشعبي العام إلى ثورة شعبية مناهضة للامبريالية والرأسمالية.
 7 – إن المهمة المباشرة التي يجب أن يضطلع بها الثوريون خلال مرحلة التحضير للانقلاب العام على النظام،ليست هي بناء "وحدة الشعب" بل تتمثل في تشكيل قطب ديمقراطي عمالي شعبي مستقل عن باقي التكتلات الطبقية،كقيادة طبقية لمرحلة الانتقال من الانقلاب العام إلى الثورة الاجتماعية.
8 – تلعب قطاعات من "الطبقات الوسطى"، خاصة فئاتها الدنيا التي تدهور وضعها الاجتماعي نحو الأسفل، دورا مهما في التعبئة للانقلاب العام، لكن في غياب قطب ديمقراطي شعبي قادر على جدب هذه الفئات ولفها حول بديل ديمقراطي شعبي، سيبقى القسم الأكبر من الشرائح الوسطى خاصة فئاتها العليا خاضعا لهيمنة التيارات الديمقراطية الليبرالية والتيارات الدينية.
9 – كل الاصطفافات السياسية قبل الانقلاب العام هي اصطفافات تكتيكية  ومؤقتة ستنفجر فور نجاح الانقلاب العام على ابعد تقدير. وتكشف التجربة التونسية والمصرية عن ملامح الاصطفافات السياسية بعد "إزالة الطغاة"، فالقوى الديمقراطية الليبرالية والقوى الدينية الرجعية ستدفعها مصالحها الطبقية إلى الارتماء في أحضان بقايا النظام القديم للمشاركة في "خارطة الطريق" التي وضعها التحالف الامبريالي لإجهاض المسلسل الثوري في العالم العربي والتي تتمحور حول "عملية سياسية" توفر شروط "انتقال متحكم فيه" للسلطة.
10- قد تفرض معركة الإطاحة بسلطة الطغاة على الثوريين إبرام مساومات وتحالفات تكتيكية لتقسيم جبهة العدو، لكن هذه التحالفات والمساومات ليست مسالة اختيارية، بل تمليها شروط سياسية ملموسة ويجب أن تكون مرتبطة بالتقدم نحو بناء القطب الاجتماعي الديمقراطي وبالهدف الاستراتيجي المتمثل في تطوير الانقلاب على النظام إلى ثورة اجتماعية. وهذا النوع من التحالفات لا مبرر له خلال مرحلة التعبئة للانقلاب العام، فهذه المرحلة قد تطول وفي هذه الحالة ستتحول هذه التحالفات المؤقتة إلى تحالفات دائمة ومن تحالفات تحت الإكراه إلى تحالفات اختيارية.   
أما التحالفات الاختيارية التي تبرمها بعض تيارات اليسار الثوري باسم وحدة الشعب ووحدة المعركة ضد السلطة الاستبدادية، فاقل ما يمكن القول بشأنها هو كونها غير منتجة في معركة الانقلاب العام ومضرة في معركة تحويل الانقلاب الشعبي إلى ثورة اجتماعية، وإذا كان لها من ربح على المستوى التكتيكي(وهذا مشكوك فيه) فخسائرها اكبر على المستوى الاستراتيجي.